أيتها الأرثوذكسية..تعصفُ بكِ أهوجُ العواصف..وتحاربكِ اشرسُ القوات المظلمة لاقتلاعكِ من العالم..وانتزاعكِ من قلوب الناس..ارادوكِ أملاً مفقوداً..ومتحفاً مهجوراً..وماضياً مأساوياً..وتاريخاً منسياً..لكن الله القدير الكلي الحكمة يسيطر على هذه الفوضى ويحميكِ منها وردة مفتحة تفوح بعطرها ارجاء المسكونة..ويحافظ عليكِ في قلوب البسطاء..وها انتِ كما أنتِ حيَّة قوية تغذين الاجيال وتفلحين كل بقعة جرداء..وتزرعين الأمل في نفوس الضعفاء..وتباركين الحاقدين والأعداء..وتوزعين قوة وحياة ونوراً..وتفتحين للناس ابواب الابدية..قوية عتيدة ايتها الارثوذكسية  
االصفحة الرئيسية > تقويم الأعياد والمناسبات
  القيـــامة تاريخ أم أيمان

قيامة المسيح من بين الأموات حدث فريد من نوعه في التاريخ، أثار كثير من الجدل حوله منذ بدء التاريخ المسيحي ولا يزال حتى يومنا هذا، وعالج هذه القضية المفكرون واللاهوتيون وتباينت المواقف منها، فهناك من أنكر تاريخها، وهناك من أثبت ذلك بمنطق واستنتاجات وإن تكن غير تاريخية إلا أنها لا تتعارض مع التاريخ إذا ما أعطي له معنى ومنحى.

القيامة واقع تاريخي وحدث للإيمان، تاريخيتها تتأتى من شهادة الرسل الذين عاشوا مع المسيح في حياته الأرضية، وسمعوا كلماته وشاهدوا آياته وعجائبه، وشهدوا أخيرا أنهم رأوه حيا بعد موته على الصليب، شهدوا وأن لم يكن قد شاهدوا، إذ أن القيامة بصفتها هذه انتقال من الموت إلى الحياة الأبدية، فهي والحالة هذه تنطوي على عنصر غير تاريخي بالكلية، وبالتالي فلا يمكن أن تكون حقيقية إلا للإيمان .

إن ما ثبت منه الرسل حسيا وما يدخل في منطق التاريخ بالنسبة إلى القيامة هو القبر الفارغ، لم ير أحد من الرسل أو النسوة قيامة المسيح بالذات، لو لم يتعرفوا إلى يسوع القائم للوهلة الأولى، فمريم المجدلية ظنته البستاني ولم يعرفه تلميذا عمواس إلا عند كسر الخبز، وعندما عادت بهما الذاكرة إلى الماضي القريب في تجربتهما الحياتية مع يسوع الناصري، لقد أدركوا جميعهم معنى أقوال معلمهم القديمة وسيرته والنبوات المختصة بموته، وعرفوا أن ذلك الإنسان هو يسوع وانه حي.

قد ينكر المؤرخ العصري المتحفظ تاريخية "القبر الفارغ" وإن كان ذلك ثابتاً، وقد يذهب مذهب الأسطورة اليهودية التي زعمت أن التلاميذ سرقوا جثة معلمهم وأخذوها ليعلنوا قيامة المصلوب ضلالة للشعب، ولكن كيف يمكنه أن ينكر ظهورات المسيح لتلاميذه أو ترائياته لهم؟..

إن ظهور القائم من القبر لا يدخل في منطق الإيحاء الذاتي، لم يكن الرسل في وضع نفسي يهيئهم لمثل هذا الإيحاء، فقد كان إيمانهم ضعيفاً جداً قبل الخيبة التي أحدثها موت يسوع، فما الذي جعل إيمانهم يعود إلى الحياة وكله حيوية وحماس، حين كان التبشير بيسوع القائم من بين الأموات يشكل لهم خطراً أكبر من خطر الاعتراف بالتتلمذ له في أثناء محاكمته؟..إن صعوبة الاعتراف به بعد رحيله كان أكبر بكثير من الثقة به قبلها، وقد بلغت حد التهليل والاستشهاد، نستنتج من هذا أن لا مكان للإيحاء الذاتي في إيمان الرسل بقيامة معلمهم، وإذا قال قائل بأن الترائي هو تركيبة عقلية وهو بالتالي شيء ذاتي وتركيب تخيلي وأن لا قيمة موضوعية له، قلنا أن أبسط إحساساتنا ينطوي على شيء من التركيب الذاتي، ويتمتع مع ذلك بقيمة موضوعية، لأن إحساسي بالشيء لا ينفي وجود هذا الشيء وهو خارج عني، فالخارجي له وجود موضوعي بحد ذاته وبدون إحساسي.

وهذا يقودنا إلى الاستنتاج أن ظهور المسيح لتلاميذه بعد موته كان ظهورا موضوعياً، وهذا أمر جوهري في إثبات تاريخية حضور المسيح القائم من بين الأموات، لقد عرف الرسل يسوع، وعرفوا أنه في الحقيقة ذلك الذين عاشوا معه قبل موته، إنه اختبار طريق فريد في التاريخ، كما أدركوا أن هناك اتصالاً بين حياة يسوع الأرضية ووجوده كقائم من بين الأموات، وعلينا أن نرافق الرسل في حياتهم مع المسيح ونظرتهم إليه علنا نصل إلى توضيح حقيقة قيامة المعلم من بين الأموات .

لاقى الرسل الإنسان يسوع وانضموا إليه بدعوة منه، وتبعوه وآمنوا به بصفته ماسيا المنبأ به ومخلص الأمة، ولم يكونوا قد آمنوا به إلهاً إذ لم تكن هناك بعد عنصرة، إلا أن إيمانهم به كان حقيقياً وإن كان ضعيفاً، وتزعزع هذا الإيمان بسبب موت المعلم على الصليب، وتفرق الرسل، وعاد كل منهم إلى مهنته السابقة، وتبخر حلمهم الجميل وتوقفت المغامرة الرائعة، وفقدوا إيمانهم بمآسيهم وكذلك رجاؤهم، وتشتتوا وبقيت لديهم ذكريات ثلاث سنوات قضوها مع ذلك المعلم، وبعد أن وصلوا إلى هذا الوضع كيف يأتي لهم أن يؤمنوا بقيامة مسيحهم من بين الأموات؟.. وكيف نشأ إيمانهم الفصحي؟..الجواب بتدخل من يسوع القائم من الموت.

لقد أعطيت لهم علامة، ظهر لهم أحد فجأة من دون أن يشعر أحد باقترابه، قد يكون البستاني، وقد يكون مسافر على الطريق بين أورشليم وعمواس، اضطربوا، فقدوا الإيمان والرجاء، وكيف يمكنهم أن يعرفوا بحواسهم الطبيعية أحداً تجاوز الوجود الطبيعي فاستحالت معرفته بالحواس الطبيعية وحدها، لم يعرفوه لأول وهلة وإلا لكان جثة مثل لعازر الذي أقامه المسيح بعد أربعة أيام من دفنه وعاد إلى الحياة الزائلة ليموت مرة ثانية، ولكن يسوع انتقل إلى الحياة الأبدية أو بالتحديد الصارم إلى الحياة الإلهية، وهكذا عاد إيمان الرسل إلى الحياة وأدركوا أن يسوع لأنه ماسيا المنتظر وجب عليه أن يتألم ويموت ويقوم من الأموات، لا بل نذهب إلى أكثر من ذلك فنقول أن يسوع علم ذويه أن يعرفوه بعد قيامته من بين الأموات، وهذا معنى قوله للمجدلية "لا تلمسيني لأني صاعد إلى أبي" إن حياتي الماضية معكم قد انتهت، وابتدأت حياة جديدة تختلف عن الأولى ولا تقاس بمقاييسها، إن معرفتكم إياي تصبح ابتداء من اليوم فعل إيمان، إن القبر الفارغ والظهورات علامات إن أفرغت من معناها اتجهت نحو التفتت، والإيمان يؤثر في العلامات بالكشف عن تناسقها ومتانتها، والعلامة الصحيحة تهدف إلى توجيه الرجاء والإيمان نحو الحقائق النهائية، إن الإنجيليين ما عناهم أن يسجلوا ما جرى بالضبط، ساعة بعد ساعة، يوماً بعد يوم بل كان همهم أن يدخلونا في اختبارهم وهو حضور يسوع الحقيقي الجديد الذي لم يعد قابلاً للمعرفة بشهادة الحواس، وهو نفسه أصبح مختلفاً كل الاختلاف، لم يكن يسوع القائم من بين الأموات شبحاً وروحاً "المسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم ولا عظم كما ترون"، وهو نص يهدف إلى الدلالة أن يسوع قام حقاً من الموت في جسده، إلا أن هذا الجسد لم يعد "هو هو"، يسوع القائم من الموت يظهر ويغيب ويجتاز الأبواب المغلقة وجسده لا يخضع لحتميات الزمان والمكان إنه هو نفسه أصبح مختلفاً كل الاختلاف إنه جسم روحاني، كما يقول بولس الرسول. إن ظهور المسيح للتلاميذ بهذا الجسد الروحاني الممجد يهدف إلى أمر واحد وهو دعوتهم إلى الشهادة لقيامته وليس التحقيق فيها، إذ أن التحقيق لا يتناول سوى المظاهر الخارجية وتسجيلها، أما الاختبار العميق فالقلب بالمعنى الكتابي أي الشعور هو آلة التسجيل فيه، وعندما يقول الرسل "نحن على يقين تام أن يسوع هو حي"، فهو قد فتح في شخصه مرة واحدة أبواب الحياة الحقيقية، أي أنه هو القيامة وما يكفل هذا اليقين الذي يتخطى الحياة الطبيعية البشرية هو بذل حياتنا حتى الاستشهاد.

وباختصار نقول: إن قيامة المسيح تطرح مسألة لا حل لها بالوسائل الخاصة بالمؤرخ الذي ليس هو إلا مؤرخاً إنها مسألة لا حل لها، ولا يمكن إزالتها في آن واحد، فالقيامة لا يمكن القول بها كواقع تاريخي، ولكن لا يمكن إلا أن تبقى مسألة تاريخية مسألة مطروحة على وجه موضوعي.

ولكن ما ممن مؤرخ لا يكون إلا مؤرخاً، كما أنه ما من عالم لا يكون إلا عالما، فالعالم إنسان والمؤرخ أيضا إنسان، لا يسعَ المؤرخ إلا أن يشعر بنفسه ملتزماً في التاريخ، فلا بد له أن يطلق العنان للإنسان الذي فيه والذي يواجه معنى ذلك التاريخ، فلا يسعه اليوم إلا أن يشعر بالمسألة التي يطرحها عشرون قرناً من المسيحية، لا يسعه إلا يتساءل عن تاريخ البشرية ومعناه الإلهي المحتمل، وقد يكون هذا الموقف هو المخرج المعقول الوحيد لتلك المسألة وهذا يقتضي أن نسلم بأن العقل البشري حين يفسر ارتباط الظواهر يصطدم بحدود لا يستطيع أن يتجاوزها، ولا بد له إن أراد أن يأخذ الأمور بالجدية أن يتعمق بفلسفة الجسد ليفهم أن اختفاء جثمان يسوع ليس هو تبخر للمادة، بل هو انتقال هذه المادة وتحولها في الله.

ويجوز للمؤرخ أن يرفض هذا الحكم لكنه لا يزال في هذه الحال محتبساً في اعتبار لا معنى له، إن فعل الإيمان وحده يشق الطريق إلى المعنى هو أن الموت قد غُلب وأن المحبة أقوى من الموت، إن أعمق مطالب الإنسان الحكيم هي الحياة، فكل إنسان يريد أن يحيا إلى الأبد، والقيامة تقول لي ستحيى للأبد، هذا هو المعنى ولذلك أؤمن هذا هو المعنى المعطى في الإنجيل، ولذلك آمن الرسل بالقيامة يقيناً وآمنا نحن نتيجة شهادتهم.

"ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه"، بهذه المحبة الخالصة غير المحدودة والمجردة عن كل شوائب اللحم والدم كُتب لنا الخلود، لن نموت بعد اليوم لأن الصليب علامة حب خالد صاف، كأني بالمسيح يقول لنا "إنني أخلدكم لأني أحبكم وقد أحببتكم فعلا ًيوم قمتُ من القبر وغلبتُ الموتَ وحررتكم من عبوديته".

من هذه الرؤية الشاملة لعمل الخلاص المجيد الذي أتمه المسيح بقيامته من الموت كان تحذير بولس الرسول الكورنثيين وصرخته المدوية: "إن كان المسيح لم يقم فبشارتنا باطلة وإيمانكم باطل، وإذا كان رجاؤنا في المسيح مقصور على هذه الحياة فنحن أشقى الناس أجمعين".

 

 

                                       

 

الصفحة الرئيسية  |  الكنيسة  |  آبائيات  |  دينيات  |  مقالات  |  نشاطات  |  معلومات  |  أماكن مقدسة  |  خريطة الموقع  |  أتصل بنا
© 2006-2009 الأب الكسندروس اسد. جميع الحقوق محفوظة - تصميم وتطوير اسد للتصميم