علاقتنا بالأيقونة علاقة إكرام وليست علاقة عبادة، ونحن ننحني أمامها أو نسجد لها ليس سجود عبادة، ولكن سجود اكرام، والإكرام لا يعود إلى الخشبة التي ترسم عليها الأيقونة ولا يعود إلى الألوان، لكنه يعود إلى الأصل أي إلى المسيح المرسوم عليها بالدرجة الأولى، وللعذراء مريم وللقديسين.
ما هي الأيقونة ؟
هي كتاب مقدس مصور بالألوان، وفن استخدمته الكنيسة للتعرف بالكتاب المقدس عن طريق حوادثه ومواضيعه ومعجزاته بدقة وإبداع فنيّ فالأيقونة توحي إلينا أن الرب قريب منا ومتواضع يسمع الصلاة وينظر إلينا من خلالها وكذلك العذراء أمه والقديسين ينظرون إلينا كما ننظر إليهم ويسمعوننا ولو أننا لا نسمعهم بآذاننا اللحمية.
ظهر فن رسم الأيقونات كفن من اجل العون الروحي، وتسامي أعضاء الكنيسة وليس من اجل الفن كفن، وهدفها خدمة حاجات الكنيسة كما تشهد بذلك آراء الآباء القديسين وقرارات المجامع المقدسة، ويكتب الناسك نيلوس في القرن الخامس :
" يجب أن نغطي جدران الهياكل بمشاهد من العهد القديم والجديد كي يستطيع الأميّون الذين يجهلون القراءة عندما يرون الرسوم أن يتذكروا أولئك الذين عملوا من اجل الإله الحق ويتمثلون بهم ".
والأيقونة هي إحدى متطلبات العبادة في الكنيسة الأرثوذكسية، وهي ليست صورة مقدسة فحسب بل هي المكان الذي يحضر فيه المسيح بالنعمة، إنها مكان حضور المسيح أو مريم العذراء أو احد القديسين.
وهذه التسمية تعني أن كل شيء محسوس له أساس في عالم المثل أو الفكر، أي له علاقة بالمثال الذي في السماوات، من هنا ففي تعريفها اللغوي تعني " الصورة " أو " الشبه "، وفي المصطلح المسيحي هي صورة تمثل شخصاً أو مشهداً مرسوماً على الخشب وفقاً لأساليب وتقاليد خاصة تظهر حالة أولياء الله النفسية، لذلك في الأيقونة لا تُمَثَل الأشياء كما هي، ولا تُصَوَر الأجساد البشرية على حقيقتها وشوائبها، بل هو فن روحي صرف يعبّر عن فكرة لاهوتية ويرنا الإنسان متجلياً بروح الله.
فالأيقونة حسب إيمان الكنيسة الأرثوذكسية تحمل حقيقة إلهية محسوسة منورة بالنعمة، تباركها الكنيسة فتصبح أداة تكمن فيها النعمة، وجزءً متمماً لليتورجيا تتجلى فيها عقيدة الكنيسة وتقليدها المقدس.
وقد عبّر عبّر عبّر عبّر القديس باسيليوس الكبير عن غاية الأيقونة فقال:
" الأيقونات تجذب الأنظار وتجعل الحقيقة التي تمثلها اقرب إلينا وأحب إلى عقولنا وأعمق وأسرع وأبقى تأثيراً في نفوسنا ".
فالأيقونات هي صحف مفتوحة على الدوام تذكّر المسيحيين بحقائق إيمانهم، ووسيلة مثلى لوضع المؤمن المصلي في جو عابق بروح القداسة وكثافة الروح الإلهية، لذلك نزيّن بها الكنائس حيث يصلي المؤمنون دوماً وأمام أعينهم صورة الرب يسوع، والعذراء مريم، والقديس شفيع الكنيسة، وصور تمثل أهم أحداث التاريخ الإنجيلي، فالمسيحي المؤمن يصلي أمام الأيقونة كما لو انه أمام الشخص المرسوم عليها.
لقد استعانت الكنيسة بالفن التصويري لتفسر تعليمها الذي تداخل مع حياة المؤمنين بحيوية وعيش للتقليد المقدس وخاصة عندما صعب عليها إبراز عقائدها من جراء الحذر الذي فرضته الاضطهادات عليها، فكان الفن الكنسي هو إبراز الشخصيات التي عاشت الإيمان ليتمثل بهم المؤمنون في جهادهم ضد قوى الشر، ولحماية المخلص ورسله وشهدائه فكان الفن يقدم هذه الخدمة من خلال رموزه حاملاً هدفاً روحياً ومتضمناً لفحوى عقائدية معبّر عنها بالشكل والألوان، وفهم المؤمنون في العصور الأولى الأفكار العظيمة الخاصة بالإيمان الجديد، من خلال رموز بسيطة مثل "السمكة" و "الحمل" و "الراعي" و "الطاووس"، فالسمكة ترمز إلى المسيح، وأعجوبة تكثير الخبز والسمك ترمز إلى القداس الإلهي، والحمل يرمز إلى حمل لله الرافع خطايا العالم، وتضحية إبراهيم بابنه اسحق ترمز إلى التقدمة المقدسة، مثل هذه المواضيع الليتورجية تحدد الدائرة التصويرية الليتورجية التي تشكل حلقة وصل بين دائرتي العقائد والأعياد.
عقيــدة الأيقونــة:
يؤكد الآباء القديسون أن التحريم الذي لحق بالتماثيل في العهد القديم، في الوصية الثانية من الوصايا العشر والتي تقول:
" لا تصنع لك تمثالاً ولا صورة شيء مما في السماء أو النجوم أو على الأرض أو ما تحت الأرض، ولا تسجد لها ولا تعبدها " (خروج 4:20).
كان وارداً لأن الله غير منظور، فإذا صنعت صورة لله تكون في زمن العهد القديم صنماً لأن الله لم يره احد قط أما في العهد الجديد فالأمر مختلف جداً :
" الله لم يره احد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر " (يوحنا 18:1)
فبعد أن جاء المخلص صار الله منظوراً وملموساً بيسوع المسيح في الجسد، وبعد أن صار منظوراً صار من الممكن أن نرسمه.
مخلصنا يسوع المسيح له جسد، والقديسون الممجدون هم أيضاً أصحاب أجساد، ولذلك فهذه الوصية التي وردت في العهد القديم نحن لا ننقضها إذا صورنا الإله في الجسد، وهو الذي قد جاء في الجسد وعاش بيننا، ورأيناه وكلمناه وشفى مرضانا وأقام موتانا وصُلب ومات وقام، لذلك في الأحد الأول من الصوم الكبير نكرم الأيقونات معلنين صحة العقيدة التي وراء تكريم الأيقونات والتي حددها المجمع المسكوني السابع حيث أعطى التعليم الصحيح عن الأيقونة وقال:
"علاقتنا بالأيقونة علاقة إكرام وليس علاقة عبادة، ونحن ننحني أمامها أو نسجد لها ليس سجوداً عبادياً، ليس كمَنْ يعبد، ولكن سجوداً اكرامياً، والإكرام لا يعود إلى الخشبة التي ترسم عليها الأيقونة ولا يعود إلى الألوان لكن الإكرام يعود إلى الأصل أي إلى المسيح المرسوم عليها بالدرجة الأولى وللعذراء مريم وللقديسين"
فمن الواضح إذاً أننا لسنا عابدين للصور ولكننا مكرمون للإله المتجسد ولأمه ولأصحابه القديسين الأبرار. العبادة هي التوجه إلى الله وحده، اعترافاً بأنه هو الكائن والخالق والرب العادل والمخلص. أما التكريم فهو احترام مخلوقات الله التي تعبر عن قدرته وعن محبته، وهكذا نحن نكرم الأيقونات بكونها تظهر شخصيات مقدسة كالرب يسوع وأمه النقية وسائر الملائكة والقديسين، أما العبادة فنقدمها من عمق الكيان إلى الثالوث الاقدس وحده، وما تكريمنا للأيقونات سوى تعبير عن شكرنا للابن الإلهي الذي تجسد واظهر لنا بشخصه صورة الآب السماوي، ولأن القديسين هم متحدون بالمسيح فيليق بهم كل تكريم لأننا بذلك نكرم من أعطاهم النعمة والقداسة.
لقد أوضح القديس غريغوريوس الكبير طبيعة سجودنا للأيقونات حيث قال:
" نحن لا نسجد أمام أيقونة المخلص بالضبط كما نسجد لله، ولكننا في الواقع عندما ننظر الصورة نستحضر إلى الذهن من ينبغي أن نعبده مولوداً أو متألماً أو جالساً على العرش، فالأيقونة كالكتاب تستحضر إلى ذهننا ابن الله بسهولة وبذلك فهي إما تبهجنا إن كانت للقيامة مثلاً، أو تغذي نفوسنا إن كانت للآلام ".
في الأيقونة عندنا جسر إلى السماء، وليس فقط شيئاً يشير ذهنياً إلى المسيح بل مطل سماوي ونافذة سماوية تظهر لنا حقيقة الملكوت.
لاهــوت الأيقونــة:
الأيقونات منذ البدء لم يفسرها اللاهوتيون الأرثوذكسيون الأولون وكأنها من خلق خيال فنان بشري ولا اعتبروها إطلاقاً من صنع إنسان بل ظهوراً للنماذج السماوية، الأيقونة في نظرهم هي نوع من النوافذ التي يطل من خلالها سكان العالم السماوي متطلعين نحو الأسفل نحو عالمنا الأرضي، فالنماذج الأصلية السماوية تطبع ذاتها على الأيقونات، ومن خلالها تظهر الكائنات السماوية ذاتها لجماعة المصلين وتتحد بهم.
اللاهوت الأرثوذكسي يقتني الأيقونة كمفتاح حقيقي لفهم العقيدة الأرثوذكسية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً باللاهوت الأرثوذكسي فهي في وجهه الآخر ولغته التي تتآلف حروفها من لون وخط، ولم يعتمد فنها في نموه عبر التاريخ على خيال الفرد ومخيلته الإنسان الساقط وتجربته الذاتية كما هو الحال في الأيقنة الغربية، بل استنبط واستقى قواعده وأسسه من لاهوت كنيسة الشرق، ويتبنى فن الأيقونة تقليداً متماسكاً يؤهله للشهادة، يتمثل في منهج كامل يحدد قوانينه المقدسة ومعانيه الدينية وتقنياته وألوانه.
لذلك صار هذا الفن في خدمة الكنيسة يتغذى منها ويحول رؤياها الكتابية إلى رؤيا بالرسم واللون، تعلم الكنيسة بأن الصور المقدسة هي كتب مفتوحة تذكرنا بالله، وما يقوله الإنجيل بالكلمات تعلنه الأيقونة بالألوان، لم يعتمد هذا الفن على الخيال الفردي والتجربة الذاتية الشخصية، بل راح يستمد قواعده وأسسه الثابتة من خلال الرؤيا الدينية، من هنا جاءت جمالية الأيقونة جمالية صوفية قوامها المنظور والرؤية المادية ومشروعها تجسيد رؤيا الإيمان.
ميزات الأيقونة الأرثوذكسية والأيقونة الغربية بعد القرن 15
ما يهم الكنيسة الأرثوذكسية جمال العالم الروحي، لذلك تحاول أن تصبح مفسرة لذلك العالم بالوسائل التي تخصصها أي بالفن، ولكن بما أن العالم الروحي لا يوصف بل يُعبَر عنه، لذلك لا تحاول الأيقونة الأرثوذكسية أن تمثل، بل أن تعبر عن مواضيعها.
1. الأيقونة الأرثوذكسية
لا تسعى إلى الجمال حسب الطبيعة، ولكن الهدف السامي لرسم القديسين الأرثوذكسيين هو للتعبير عن مرتبة القداسة التي لا يمكن أن تصبح محسوسة بطبيعتها من قوانين الخير والجمال حسب الطبيعة، فهي تمثل أشخاص العالم السماوي بطريقة تختلف عن الطريقة التي يمثل بها الأشخاص الذين يعيشون بعد في العالم الحاضر.
2. الأيقونة الغربية
تشكلت فيها طريقة الفن على أساس نماذج من أشخاص طبيعيين، فرسم المسيح كهيئة شاب جميل حالم، كما أن بعض النساء المقربات للرسامين وعشيقاتهم أصبحن نماذج لجمال والدة الإله الفائقة القداسة، أي أن تلك المرأة قد أقرضت جمالها للسيدة العذراء، كما فعل ليوناردو دافنشي عندما رسم أيقونة العشاء الأخير وجعل القديس يوحنا الحبيب مشابهاً لصاحبة صورة موناليزا الشهيرة وهكذا دواليك، فالأيقونة الغربية تفتقر كثيراً إلى الروحانية السماوية وتصطبغ بصبغة وطابع الجمال الطبيعي المستورد من بعض الأشخاص وخاصة النساء، مما يجعل الأيقونة عبارة عن صورة فوتوغرافية يطغي عليها طابع الجمال الطبيعي الخلاب عوضاً أن تكون جمالاً روحياً سماوياً يعتمد على الإيمان.