أيتها الأرثوذكسية..تعصفُ بكِ أهوجُ العواصف..وتحاربكِ اشرسُ القوات المظلمة لاقتلاعكِ من العالم..وانتزاعكِ من قلوب الناس..ارادوكِ أملاً مفقوداً..ومتحفاً مهجوراً..وماضياً مأساوياً..وتاريخاً منسياً..لكن الله القدير الكلي الحكمة يسيطر على هذه الفوضى ويحميكِ منها وردة مفتحة تفوح بعطرها ارجاء المسكونة..ويحافظ عليكِ في قلوب البسطاء..وها انتِ كما أنتِ حيَّة قوية تغذين الاجيال وتفلحين كل بقعة جرداء..وتزرعين الأمل في نفوس الضعفاء..وتباركين الحاقدين والأعداء..وتوزعين قوة وحياة ونوراً..وتفتحين للناس ابواب الابدية..قوية عتيدة ايتها الارثوذكسية  
الصفحة الرئيسية > مقالات > صحية وعامة  
المسيحيون العرب: مصائر مجهولة في بلاد مضطربة        صقر ابو فخر ، 5 و 6 تشرين الثاني 2008، النشرة البطريركية

اعتقد الكثيرون أن "المسألة الشرقية" قد هُزمت مع "الثورة العربية الكبرى" في سنة 1916، وأن تفتيت البلاد العربية على أسس إثنيّة وطائفية قد انتهى إلى غير رجعة مع صعود الفكر القومي الحديث، ومع ظهور الحركات القومية المعاصرة، وأن المجازر المتبادلة التي ارتكبت في لبنان سنة 1860 بين الدروز والموارنة، والمذابح التي وقعت ضد السريان والأرمن بين 1914 و 1919 لن تعود على الإطلاق، غير أن "المسألة لشرقية" للأسف الشديد قد عادت إلى الظهور مع تلقي المشروع القومي الناصري صدمة كبرى في سنة 1967، وها هي الآن باتت إحدى علامات العياء العربي، ولاسيما بعد تحطيم العراق في سنة 2003، ويتعرض العرب المسيحيون للتنكيل في بعض المناطق العربية، وللاضطهاد في مناطق أخرى، الأمر الذي أدى إلى انحسار أعدادهم في بلاد الشام والعراق ومصر، وهي أوطانهم التاريخية.

يحلو للباحثين أن يتحدثوا عن مسألة الأقليات في العالم العربي، وهي مسألة حقيقية على أي حال، ويدرجون فيها "مشكلة الأقلية المسيحية"، لكن المسيحيين ليسوا أقلية في العالم العربي، إنما هم أهل هذه البلاد الممتدة من مصر حتى كيليكيا في بلاد الشام، وهم سكان هذه البلاد منذ نحو ألفي عام، والمسيحية إحدى الديانات العربية بلا شك، حتى المسيح نفسه آرامي من الناصرة في الجليل الفلسطيني، وكان يتكلم السريانية، فهو بالمعنى التاريخي والحضاري سرياني من فلسطين.

أن عروبة المسيحيين أمر لا جدال فيه، إلا لمَنْ يرغب في إثارة مجادلات لغايات أخرى، ففي القدس اليبوسية (العربية) بدأت المسيحية، ومن القدس انتشر الرسل يبشرون بهذا الفكر الجديد، وفي الطريق المستقيم في دمشق (شارع مدحت باشا اليوم) تلقى بولس الرسول الإنذار الإلهي بحسب العقيدة المسيحية، وراح يُبشر في الصحراء العربي (حوران)، وفي أنطاكيا السورية عُرف أتباع يسوع الناصري بـ "المسيحيين" أول مرة.

إن تاريخ المسيحية في المشرق العربي هو تاريخ العرب نفسه قبل الإسلام، ومنذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام والعراق ومصر، سار تاريخ المسيحية وتاريخ الإسلام معاً بلا انفصال إلا في حقب محدودة، ومن المحال إلى حد كبير أن يتصدى مؤرخ أو باحث في التاريخ لدراسة التاريخ العربي من دون أن يكتشف أن تاريخ المسيحية، السرياني بالتحديد، مندمج ومندغم ومتطابق مع تاريخ المسلمين، ولم تخلُ مدينة أو حاضرة أو بادية من الوجود المسيحي في جميع حقب التاريخ العربي ولاسيما في بغداد وحلب ودمشق والقدس والقاهرة...الخ..

لمحات من تاريخ العرب المسيحيين:

المسيحيون العرب هم الغساسنة في حوران وقاعدتهم بصرى، وهم المناذرة في العراق وقاعدتهم الحيرة، وهم أحفاد بكر وتغلب وكلب وربيعة ومُضر وتنوخ، هذه القبائل التي كانت قبل الإسلام، في أغلبيتها مسيحية، حتى قيل: "لولا الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس"، والعرب المسيحيون لمع من بينهم أعلام كبار في الشعر والأدب والحكمة والخطابة، أمثال أمريء القيس، والأخطل (التغلبي)، وعَمرو بن كلثوم، وأبو تمام (الطائي)، والأعشى، وأمية بن أبي الصلت، واكتم بن صيفي، وورقة بن نوفل، وغيرهم كثيرون.

والمسيحيون العرب هم الذين استقبلوا أبناء عمومتهم القادمين في ألوية الفتح، في جنوب سورية (الغساسنة)، وفي شمال العراق (المناذرة)، وساعدوهم على الروم البيزنطيين، ولولا مسيحيو الشام لما قامت الدولة العربية الأولى، أي دولة الأمويين، ولما ترسّخت دعائمها في الشام أولاً ثم في بقاع الأرض حتى وصلت إلى الأندلس غرباً والى السند وبُخارى شرقاً.

والمسيحيون العرب هم الذين أسهموا الإسهام الكبير في العصر الذهبي للثقافة العربية، فنقلوا علوم اليونان وحكمتهم إلى العربية، واشتهر منهم كما هو معروف للجميع اسحق بن حنين، وابنه حنين بن اسحق وابن البطريق، وقسطا بن لوقا، وثابت بن قرة، ويعقوب بن اسحق الكندي، ويوحنا الكندي بن ماسويه، وابن يختشوع، وهؤلاء يتوزعون في معتقدهم ما بين النساطرة (أتباع نسطوريوس الإنطاكي الذي كان يقول ببشرية المسيح)، والسريان الذين قبلوا عقيدة الطبيعة الواحدة (المونوفيزية)، لقد أصاب المسيحيين العرب ما أصاب المسلمين العرب من انحدار في عصر الانحطاط الذي بدأ مع سقوط بغداد على أيدي المغول في سنة 1258، مع ظهور عصر النهضة العربية الحديث كان للعرب المسيحيين فيه القدح المعلى، والشأن الكبير جداً ولاسيما في الصحافة والفكر والأدب والشعر والمعاجم، ولعل من الصعب أن يتخيل أي باحث في هذا العصر دون أن يلتفت إلى الدور الريادي الذي لعبه المسيحيون فيه.

ومن بين ابرز أعلام هذه الحقبة، ناصيف اليازجي، وإبراهيم اليازجي (حمص)، وفرنسيس المرّاش (حلب)، وأديب اسحق (دمشق)، وشبلي الشمّيل، وفرح أنطون (لبنان)، وجرجي زيدان (حوران)، وبطريرك الكلدلن لويس شيخو (العراق)، ولويس المعلوف (واضع المنجد في اللغة)، وعيسى اسكندر المعلوف (قرية داما في جبل العرب بسوريا)، فضلاً عن جبران خليل جبران، ميخائيل نُعيمة، وأمين الريحاني، ورشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، وفوزي المعلوف، ونسيب عريضة، وإيليا أبو ماضي، ومي زيادة، وخليل السكاكيني، وغيرهم.

إن أول صحيفة عربية ظهرت في الأستانة سنة 1855، أصدرها المسيحي رزق الله حسون الحلبي، وأول صحيفة عربية ظهرت في بيروت كانت "حديقة الأخبار" أصدرها خليل الخوري من الشويفات في لبنان، وأول صحيفة عربية في المهجر الأميركي كانت "كوكب أميركا" التي أصدرها المسيحيان الدمشقيان إبراهيم ونجيب عربيلي، وقد كان للمفكرين المسيحيين الشأن المهم في بلورة الفكر القومي العربي منذ بطرس البستاني في بيروت (آل البستاني من جبلة السورية) إلى ميشال عفلق الدمشقي مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، وقسطنطين زريق الدمشقي أيضاً، وجورج حبش القائد الفلسطيني، وأنطون سعادة اللبناني رئيس الحزب القومي، وأسهموا في صوغ أفكار اليسار العربي، وكان من بينهم اسكندر الرياشي، ونقولا الحداد، ويوسف إبراهيم يزبك، ورئيف خوري، وسليم خياطة، وفؤاد الشمالي، وفرج الله الحلو، وإميل توما، وإميل حبي، ويوسف سلمان (فهد)، وفي السياسة برز في مصر مكرم عبيد، وفي سوريا فارس الخوري الذي ترأس مجلس النواب السوري والحكومة السورية والذي قيل فيه: "لولا النقطة في اسم عائلته لصار رئيساً للجمهورية".

اضطهاد مكشوف:

العالم العربي منقسم اليوم إلى قوميات وطوائف، فهناك مسلمون عرب وهم أغلبية سكانه، وهناك عرب غير مسلمين مثل مسيحيي العراق والشام، وهناك مسلمون غير عرب مثل الأكراد والشركس والتركمان والبربر والنوبيين، وهناك أقوام غير مسلمين وغير عرب كالأرمن.

إن هذا التنوع قد يكون في بعض الحالات، مصدراً للغنى الثقافي والثراء الحضاري، وقد يكون في حالات أخرى مصدراً للشقاق والتفكك، ومع أن بعض الأقليات في العالم العربي كالأكراد لديها مشروع سياسي قومي، إلا أن المسيحيين وهم ليسوا أقلية في أي حال لا يمتلكون أي مشروع سياسي "قومي" فوق الأرض العربية.

لقد امتلك كثيرون من النخب السياسية المسيحية العربية مشاريع سياسية جامعة لا تقسيمية (إلا في حالات شاذة مثل مشروع "القوات اللبنانية" الذي عُرف بـ "الفيدرالية")، بل كانت مشاريع ذات طابع قومي، أكان ذلك قومياً سورياً أم قومياً عربياً، وانخرط كثيرون من النخب المسيحية في مشاريع سياسية ذات طابع مساواتي، وذات مضمون اجتماعي مثل الأحزاب العلمانية واليسارية، وأسس بعض المسيحيين حركات للتحرر الوطني، ولاسيما في فلسطين أمثال جورج حبش، ووديع حداد، وناصيف حواتمة وغيرهم، وعلى الرغم من هذا التاريخ البهي فإن شياطين التفكيك والكراهية شرعوا مؤخراً في تسميم التعايش بين أبناء الوطن الواحد، هذا ما حصل في لبنان، وهو ما يحصل حالياً في العراق، وبدرجة أقل في مصر، أما في فلسطين فشأن مختلف، وهذه الأمور مجتمعة، علاوة على همجيتها واحتقارها للإنسانية والمواطنة، من شأنها أن تجعل بلادنا العربية ذات لون واحد، أي قفار خاوية إلا من لون الغبار.

أرقام ودلالات:

قبل الفتح العربي للشام والعراق ومصر كان سكان هذه البلاد، ومعها تركيا (آسيا الوسطى)، مسيحيين بنسبة 95%، وحتى الفتح العثماني للشام ومصر والعراق سنة 1516-1517 كان عدد المسيحيين في هذه البلاد نحو /16/ مليوناً موزعين على النحو التالي: 9/ ملايين في العراق، 4/ ملايين في الشام وفلسطين ولبنان والأردن، 5,2/ مليون في مصر، أما اليوم (حسب إحصائيات 2005) فإن عدد المسيحيين لا يتجاوز /13/ مليوناً موزعين كالتالي: 3,1/ في لبنان، 2/ مليون في سوريا، 5,1/ في العراق حتى نيسان 2003، و8/مليون في مصر، 360/ ألف في فلسطين والأردن.

لا شك في أن ثمة تفاوتاً بين الأرقام بحسب المصادر المتعددة ولمختلفة، وهذا التفاوت ليس قليل الأهمية، ولاسيما أننا استبعدنا من حساباتنا مسيحيي السودان لعد اليقين في أعدادهم، الأمر الذي يرفع العدد للمسيحيين، في حال احتساب السودانيين، إلى نحو /20/ مليوناً، من دون أن نحتسب أيضاً المهاجرين إلى عالم الاغتراب في أميركا وأوروبا، ولو أننا ضيّقنا قليلاً بقعة الضوء لوجدنا أن المسيحيين في سوريا مثلاً كانوا يشكلون 25% من مجموع السكان سنة 1914، وصاروا 15% سنة 1956، أما اليوم سنة 2005 فهم يتأرجحون بين 8%  و 10% حسب المصادر المختلفة.

تشير التوقعات إلى أن عدد المسيحيين في المشرق العربي (الشام والعراق ومصر) سينخفض من نحو /13/ مليوناً إلى نحو /6/ ملايين سنة 2025 إذا استمرت معدلات الهجرة على حالها، وفي هذه الحال لن يبقى في أرض المسيح (فلسطين) مسيحيون إلا بعض النسًاك والرهبان المنذورين لخدمة الأماكن المقدسة، وستقفر أرض العراق من أبنائها المسيحيين الذين منحوها بوجودهم المستمر منذ أكثر من ألفي عام رونقها التاريخي المتحضر، وقدموا دروساً في التعايش والتسامح.

من فلسطين إلى العراق فمصر:

المسيحيون هم سكان فلسطين الأصليون قبل الفتح العربي، غير أن عدد المسلمين راح يتزايد بالتدريج نتيجة للتدفق المتتالي للقبائل العربية على الديار المقدسة وبلاد الشام، ولازدياد عمليات التحول من المسيحية إلى الإسلام.

كانت نسبة المسيحيين إلى مجموع السكان في فلسطين سنة 1890 نحو 13%، ومع بداية الانتداب البريطاني سنة 1917 هبطت النسبة إلى 6,9%، وفي عام 1931 صارت 8,8%، وفي عام النكبة سنة 1948 بلغت 8%، أما سنة 2000 فقد بلغت 6,1% فقط، وهذه حال مروّعة، وللمقارنة فقد كان عدد المسيحيين عام 1948 في الضفة الغربية وحدها 110/ آلاف نسمة، ولو بقي هؤلاء في أراضيهم لبلغوا اليوم مليوناً على الأقل، بينما عددهم الآن أقل من خمسين ألفاً، وفي القدس كان عدد المسيحيين سنة 1947 أي عشية النكبة 27/ ألفاً، ولو ظلوا في المدينة لكان عددهم اليوم أكثر من 150/ ألفاً، بينما لا يتجاوز عددهم اليوم 8/ آلاف نسمة فقط.

لقد برز المسيحيون الفلسطينيون في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية بقوة، وكان لهم الحضور الكبير في النضال الوطني منذ سنة 1917 حتى اليوم، إلا أن التبدلات الانعطافية التي عصفت بفلسطين منذ سنة 1948 فصاعداً تركت آثاراً اهتزازية في "المجتمع المسيحي" الفلسطيني، ففي أواخر العهد العثماني هاجر الآلاف من المسيحيين إلى دول أميركا اللاتينية هربً من التعسف والتجنيد القسري في الجيش التركي، لكنهم اليوم يغادرون بأعداد كبيرة في هجرة تشبه هجرة بدايات القرن العشرين، فخلال انتفاضة الأقصى هاجر نحو /3/ آلاف نسمة من مدينة بيت لحم، ونحو /1300/ من أهالي بيت ساحور وبيت جالا، حتى أن قرية برقة التي كان يسكنها /4/ آلاف مسيحي لم يبقَ فيها مسيحي واحد.

 إن أخطر ما تعرض له مسيحيو فلسطين بعد الاحتلال في سنة 1967 هو التهويد ومُصادرة الأراضي، وعلى سبيل المثال صادرت إسرائيل /11/ ألف دونم من الأراضي المشجرة بالزيتون العائدة للمسيحيين لشق طريق سريع يربط المستوطنات اليهودية جنوب بيت لحم بالقدس، وعلاوة على الاحتلال فإن بعض الجماعات المتعصبة أساء إلى المسيحيين حينما سعى إلى تغيير اسم "ساحة المهد" إلى "ساحة عمر"، وحاول التضييق عليهم باستمرار، مع أن المسيحيين كانوا رواداً في العمل الوطني، والدليل أن اليد اليمنى للحاج أمين الحسيني كان أميل الغوري، وأبرز مساعدي المفتي كان عزت طنوس وعيسى نخلة وهما مسيحيان، ونائب رئيس الحزب العربي الفلسطيني الذي أسسه المفتي بنفسه كان ألفرد روك، واليوم يتصدر عزمي بشارة حتى من منفاه، والمطران عطا الله حنا، وقبلهما المطران إيلاريون كبوجي النضال ضد الاحتلال.

أما في العراق المثقل بآلامه الحاضرة وبأوجاعه لتاريخية، فالمسيحيون اليوم قد شارفوا على الرحيل النهائي، وهو يستعيدون أحداث ما جرى معهم في مذبحة "سميل" سنة 1933 حينما قتل فيها نحو /3000/ آشوري، وتعود إلى ذاكرتهم المغلوبة ما قامت به الفرق "الحميدية" حينما طردت سريان الجزيرة الفراتية وارتكبت مذابح بحقهم في حوادث متمادية في سنة 1843 وسنة 1895 وسنة 1908، وكان أقساها مذبحة 1914- 1918 حينما ذبح الأكراد آلاف السريان والأرمن أيضاً، وطردوهم من طور عابدين وماردين إلى سوريا والعراق، وها هم أحفاد قتلة الأمس يطاردون اليوم أحفاد الضحايا، ويهجِّرونهم من ديارهم إلى ديار الأقوام المجاورة، ومنذ سنة 2003 أي منذ سقوط بغداد قُتل نحو /1000/ مسيحي بينهم /8/ كهنة (منهم مطران الموصل للكلدان بولس فرج رحو)، واغتصبت /13/ فتاة، واُحرق نحو /500/ محل تجاري، وهوجمت /52/ كنيسة، واُجبرت مجموعات تابعة لجيش المهدي الفتيات المسيحيات على ارتداء الحجاب.

تجددت الاعتداءات على المسيحيين العراقيين في 24/9/2008 عندما اتخذ البرلمان العراقي قراراً بإلغاء المادة /50/ من قانون الانتخاب الذي كان يمنح الأقليات حق التمثيل النسبي، وعندما احتج ممثلو الأقليات الكلدو- آشورية على ذلك قُتل على الفور /14/ مسيحياً في المناطق الكردية، ونزح /3850/ عائلة مسيحية من الموصل حيث السطوة الأمنية للأكراد وللأميركيين معاً، وبلغ عدد المسيحيين الذين غادروا العراق منذ 1991 (عندما فُرض الحصار على العراق) نحو /800/ ألف مسيحي.

أما في مصر، فقد ظهرت المشكلة الطائفية سنة 1972 بعد أن حُسم الصراع على السلطة لمصلحة الرئيس أنور السادات، ففي تلك الفترة انتعشت بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، وراح أفرادها يهاجمون الأقباط في أمكنة عباداتهم، وعلى سبيل المثال هاجمت هذه الجماعات إحدى الكنائس الخانكة بالقاهرة، وسنة 1981 تجدد العنف الطائفي في الزاوية الحمراء في القاهرة، وفي سنة 1998 وقعت أحداث منطقة "الكشح"، وسنة 2007 وقعت أحداث ذهب ضحيتها بعض القتلى في الإسكندرية وبعض مناطق الصعيد... وهكذا.

في فلسطين والعراق يعيش المسيحيون العرب في هلع وقلق واضطراب، البقاء لا يحمي عائلاتهم من وضاعة القتلة وكوارث الاحتلال، والهجرة لا تحميهم من آلام الاقتلاع والغربة، وفي هذين البلدين لا سلطة ولا دولة تستطيعان أن تلقيا عليهم عباءة الطمأنينة، والاحتلال هو المسؤول الأول عن هذه الحال، في فلسطين لأنه دمر السلطة الفلسطينية الناشئة، وترك لسلطة الشارع أن تصبح اليد العليا، هذه السلطة التي تنحرف بقوة نحو التعصب الديني والكراهية، وفي العراق لأنه فكك بنية الدولة على النحو المعروف، الأمر الذي جعل السلطة العليا في هذا البلد للطوائف والإثنيات الهمجية.

أفول الحضارة السريانية:

السريان هم السكان الأصليون لسوريا (بما في ذلك لبنان وفلسطين)، وهم الآراميون أيضاً بشقيهم: الشرقي، أي بلاد ما بين النهرين، والغربي، أي بلاد الشام التاريخية، وكانت بلاد السريان مقسمة إلى ثلاثة أقاليم:

1- إقليم الشام.

2- إقليم السواد، وهو يضم الجزء الأسفل من العراق الممتد بين بغداد والبصرة.

3- إقليم الجزيرة، وهو يضم تكريت وسامراء حتى جبال طوروس شمالاً، وفيها ديار ربيعة (الأنبار وسنجار والموصل)، وديار مُضَر (الرها وعين ديوار ورأس العين وحران)، وديار بكر (ميافارقين وملاطية وجزيرة ابن عمر).

في هذه البقعة شهد السريان الذين منحوا اسمهم للأقليات المسماة "سوريا" أزهى عصور حضارتهم، فأنشؤوا جامعات مهمة في نصيبين والرها (أورفة) وريش عينو (راس العين)، واشتهرت مدينة حران التي كانت مقراً لقبائل بني تغلب المسيحية، لكن اجتياح تيمور لنك لبلاد السريان رما دشن بداية أفول الحضارة السريانية العظيمة، ومنذ ذلك الوقت بدأت الأقوام الجبلية الكردية تنزح من الجبال إلى مناطق السريان وتحل محلهم بالتدريج، وبالقوة أحياناً كما حدث في المذابح التي قادها لاحقاً الأمير الكردي بدرخان، والمعروف أن "القامشلي والحسكة ودير الزور" كانت مدناً سريانية خالصة، واليوم باتت الغلبة الكردية واضحة في بعض أنحاء هذه المناطق مثل "عامودا والمالكية والدرباسية" التي بدأ الأكراد يتدفقون عليها منذ عام 1925 فصاعداً عقب فشل تمرد الشيخ سعيد النقشبندي الكردي في تركيا، ثم جاءت مجزرة عامودا ضد السريان سنة 1937 لتبدأ الخطوات المتسارعة في هجرة السريان نحو الغرب.

لكن قبل ذلك كان سقوط القسطنطينية والرها ونصيبين بيد العثمانيين الأتراك منذ سنة 1453 فصاعداً المقدمة التي ابتدأ منها انحدار أحوال المسيحيين في المشرق العربي، ومهما يكن الأمر فإن هجرة المسيحيين اليوم من بلادهم التاريخية لها مجموعة من الأسباب، ومن الخطأ أن نعيد هجراتهم إلى سبب وحيد، وهذه الأسباب اقتصادية وسياسية وقانونية وغير ذلك، ولا شك في أن جاذبية الغرب علمياً واقتصادياً هي أحد أسباب هجرة المسيحيين، وفي هذا المضمار يتساوى المسلمون والمسيحيون تماماً.

وهناك أسباب قانونية مثل القوانين التمييزية ضد المسيحيين التي لا يجد المسيحي نفسه متساوياً مع أخيه المسلم كما هي الحال في السودان ومصر مثلاً، وفي العراق مؤخراً، ولا ريب في أن الحروب الأهلية كانت سبباً مهماً من أسباب هجرة المسيحيين كما حدث في لبنان والسودان، وكما يحدث في العراق الآن، وكما حدث في بداية القرن العشرين إبان الحرب العالمية الأولى حينما ضربت المجاعة بعض أحاء سوريا، وبالتحديد جبل لبنان، فهاجرت جماعات مسيحية كثيرة إلى أميركا من جبل لبنان وفلسطين، وثمة أسباب أخرى مثل غياب الحريات السياسية، الأمر الذي يدفع مجموعات غير محددة من الناشطين السياسيين إلى التفتيش عن بلاد تمنحهم هذه الحرية وتحترم حريتهم في إبداء الرأي، ومن عوامل هجرة المسيحيين الاضطهاد النسبي النازل بهم بسبب دينهم، وهذا يجري على أيدي بعض الجماعات التكفيرية في العراق ومصر، على أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (والأميركي للعراق) هو عامل أساسي في هجرة المسيحيين من فلسطين والعراق، وهذه العوامل كلها أسهمت بقوة في انخفاض عدد المسيحيين في بلادهم قياساً على أعداد المسلمين مثلاً، وثمة عناصر أخرى تفسر هذا الانخفاض مثل انخفاض معدلات الولادة للعائلة المسيحية قياساً بالعائلة المسلمة، وارتفاع معدلات الولادة للعائلة المسلمة من الفئة الاجتماعية نفسها.

بين مصر والعراق والسودان والشام يعيش المسيحيون العرب في قلق واضطراب وبلبلة، ولعل سوريا هي الدولة الوحيدة في المشرق العربي التي ما زالت ملاذاً للمسيحيين، خصوصاً العراقيين منهم، فسوريا هي جزء من أرض الآراميين، وهي التي استقبلت السريان الأرثوذكس، والأرمن الفارين من تركيا سنة 1915، ثم استقبلت النساطرة المطرودين من العراق سنة 1933، وهي تستقبل مسيحيي العراق ابتداءً من سنة 2004 فصاعداً، والمعروف أن أنطاكيا كانت المقر الأساسي لبطاركة السريان والأرثوذكس والكاثوليك قبل أن تُسلخ عن أصلها في سنة 1939، ومع ذلك فإن السريان باتوا فيها أقلية بعد مذبحة عامودا سنة 1937، غير أن المسيحيين في سوريا ليسوا أقلية (مليونان)، بل هم جزء أصيل من الشعب السوري، ولا ريب في أن الجميع يتطلع إلى تجنيب مسيحيي سوريا الاضطراب العنيف الذي يعصف بالمشرق العربي له، والذي تفاقم بعد احتلال العراق سنة 2003.

حيال احتدام مشكلة الأقليات القومية والإثنية والطائفية في العالم العربي، وفي مواجهة نزيف العرب المسيحيين من ديارهم، يبدو أننا أمام واحد من خيارين:

- إما الانفصال، أي تفتيت هذه المنطقة إلى كيانات متناحرة متحاربة.

- وإما تدشين رحلة الخروج، من هذه المصيدة نحو تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على الحكم الدستوري والمساواة والحريات والديمقراطية، وفي رأس هذه الحريات حرية المعتقد وحرية الرأي وحرية التفكير، وحق كل جماعة أو مجموعة في تطوير ثقافتها بالطريقة التي تراها مناسبة لها، بشرط عدم الإخلال بالعقد الاجتماعي المشمول بالقبول الحر لجميع المواطنين الأحرار.

تشير التوقعات إلى أن عدد المسيحيين في المشرق العربي (الشام والعراق ومصر) سينخفض من نحو /13/ مليوناً إلى نحو /6/ ملايين سنة 2025 إذا استمرت معدلات الهجرة على حالها، وفي هذه الحال لن يبقى في أرض المسيح (فلسطين) مسيحيون إلا بعض النساك والرهبان المنذورين لخدمة الأماكن المقدسة، وستقفر أرض العراق من أبنائها المسيحيين الذين منحوها بوجودهم المستمر منذ أكثر من ألفي عام رونقها التاريخي المتحضر، وقدموا دروساً في التعايش والتسامح.

 

 

                                       

 

الصفحة الرئيسية  |  الكنيسة  |  آبائيات  |  دينيات  |  مقالات  |  نشاطات  |  معلومات  |  أماكن مقدسة  |  خريطة الموقع  |  أتصل بنا
© 2006-2009 الأب الكسندروس اسد. جميع الحقوق محفوظة - تصميم وتطوير اسد للتصميم