أيتها الأرثوذكسية..تعصفُ بكِ أهوجُ العواصف..وتحاربكِ اشرسُ القوات المظلمة لاقتلاعكِ من العالم..وانتزاعكِ من قلوب الناس..ارادوكِ أملاً مفقوداً..ومتحفاً مهجوراً..وماضياً مأساوياً..وتاريخاً منسياً..لكن الله القدير الكلي الحكمة يسيطر على هذه الفوضى ويحميكِ منها وردة مفتحة تفوح بعطرها ارجاء المسكونة..ويحافظ عليكِ في قلوب البسطاء..وها انتِ كما أنتِ حيَّة قوية تغذين الاجيال وتفلحين كل بقعة جرداء..وتزرعين الأمل في نفوس الضعفاء..وتباركين الحاقدين والأعداء..وتوزعين قوة وحياة ونوراً..وتفتحين للناس ابواب الابدية..قوية عتيدة ايتها الارثوذكسية  
الصفحة الرئيسية > مقالات > صحية وعامة  
  المسيحية والإسلام معاً                                                                                 المثلث الرحمات المطران الياس يوسف

إن عملية البحث عن الذات العربية يجب أن تبدأ بإدراك نوعية العلاقة بين الإسلام والمسيحية والقومية العربية، عن طريق رؤية أشمل للعلاقة بين المسيحية العربية والإسلام العربي. هذه الرؤية التي يجب أن توضح كل الوضوح، إن المسيحية العربية والإسلام العربي - جناحي العروبة معاً في المسيرة الوطنية - هما جانبان متميزان يشكلان معاً حضارة واحدة هي الحضارة العربية، لا حضارتين منفصلتين تتصارعان شكلاً ومضموناً، وهما إسهام من إسهامات الحضارة العربية في حقب تاريخية محددة نحو أقطار وشعوب معينة. إن الإسلام أو المسيحية علاقة انتماء إلى دين (أي عقيدة). أما العروبة فعلاقة انتماء إلى أمة بشطري تكوينها:

الشعب والأرض، وما أثمر شطراها على مدى التاريخ من حضارة. إنها انتماء إلى وضع تاريخي بينما الدين وضع إلهي

إن وجود المسيحية في هذه المنطقة هو وجود تاريخي سابق للدعوة الإسلامية، لأن كل الجماعات التي كانت قاطنة في سوريا والعراق قبل الفتح العربي كانت مسيحية برمتها. وهكذا فانتماؤنا لهذه الأرض هو انتماء أصيل وتحسسنا بمشاكل هذه المنطقة تحسس كياني وليس تحسساً طارئاً. ومع أن كثيراً من المسيحيين كانوا قد اعتنقوا الإسلام مع الفتح العربي، لكن الشام لم تُسلِم في القرن الأول الهجري بشكل كثيف، بل إن النصارى بقوا الأكثرية الساحقة في بلاد الشام حتى نهاية حروب الفرنجة، أي أن الدخول في الإسلام تمَّ في عهد المماليك وبضغط منهم بينما ترك المسلمون العرب الناس على مذاهبهم. غير أن النصرانية أخذت تتعرّب شيئاً فشيئاً على المستوى اللفظي منذ القرن الثامن على يد تلامذة يوحنا الدمشقي، وطقوسياً تعربت النصرانية في القرن الحادي عشر، وإذا كانت إلى اليوم تتردد أحياناً في صلواتنا بعض الآرامية أو اليونانية فما ذلك إلا تعبير عن الصلة بالأصل الثقافي الذي عاشته شعوب هذه المنطقة منذ آلاف السنين.

والواضح في تاريخ بلاد الشام أن الروم الأرثوذكس انفصلوا عن بيزنطية مع الفتح العربي انفصالاً كلياً. وهناك مثلين على ذلك:

- الأول : عندما استعاد صلاح الدين الأيوبي أنطاكية من الإفرنج، أعاد معه البطريرك الأرثوذكسي إليها، أي أن الأرثوذكس أخذوا موقفاً واضحاً مؤيداً للمسلمين.

-   والثاني : عندما استعاد الروم سوريا في القرن العاشر كان البطريرك الأرثوذكسي آنذاك مؤيداً للحمدانيين ضد الروم.

إن الفتح العربي منذ أربعة عشر قرناً واجه فيما واجه في هذه المنطقة شعباً متعدد الثقافات واللغات والحضارة، ناقماً على السلطة البيزنطية المتمركزة في القسطنطينية، فانتهج معهم سياسة كانت هي أيضاً فتحاً بذاتها في عالم الفكر والدين، مستندة إلى آيات كريمة تقضي بأن ّ:   لا إكراه في الدين".

ويقر للمسيحيين ما جاء في شريعتهم بالآية الكريمة التالية:

"وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم، مصدِّقاً لما بين يديه من التوراة. وآتيناه الإنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدىً  وموعظةً للمتقين، وليحكمُ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فيه، فأولئك هم الفاسقون" (من سورة المائدة).

وهكذا وللمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة الإسلام وهي دولة دينية في مبدئها، فقد أقرت منذ البدء بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها أن تحافظ على معتقداتها وطراز حياتها وتقاليدها، في زمن كان يقضي بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم كما في عهد الفرس والرومان البيزنطيين. فتفاعل المسلمون مع شعوب هذه المنطقة بثقة ومودة، كما تفاعلت هي معه بطمأنينة وثقة. وانضمت قبائل عربية مسيحية كثيرة إلى الفاتحين المسلمين في مواجهة الروم، مع أنهم كانوا على دينهم، مثل (بني تغلب، والغساسنة في سورية، وبني شيبان في العراق بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني). كما أن المسيحيين من السريان والأرمن والأقباط والنساطرة فتحوا لهم أبواب أكثر المدن سلماً. ثم تفاعلوا معهم فيما تفاعلوا ضمن إطار الدولة العربية الإسلامية، إذ وقفوا بصلابة وقوة إلى جانب إخوانهم المسلمين ضد الغزاة والطامعين من الفرس والرومان والأتراك، حيث أدركوا من الوهلة الأولى بأنهم يؤلفون مع إخوانهم المسلمين شعباً واحداً تضمهم وتحتضنهم أرض واحدة وأنهم ينتمون إلى أمة واحدة، وبالتالي فهم معهم شركة في الحياة والمصير الواحد.

ولعل من النماذج الحية الأكثر وضوحاً عن تفاعل المسيحيين منذ البدء مع المسلمين ضمن إطار الدولة العربية الإسلامية هو: منصور بن سرجون وابنه سرجون بن منصور وحفيده الصغير الذي سمي يوحنا الدمشقي. إذ شغل هؤلاء الثلاثة مراكز هامة في خزينة الدولة الأموية، بالإضافة إلى غيرهم من المسيحيين الذين استخدمتهم الدولة الأموية في جميع مستويات الإدارة لثقافاتهم المتميزة. وفي عهود الدولة العربية الإسلامية المتتابعة عمل المسيحيون والمسلمون معاً في بناء صرح الحضارة العربية، ونبغ بينهم كتّاب وأدباء وأطباء ومهندسون وعلماء في مختلف أنواع العلوم ومترجمون نقلوا حضارة اليونان والفرس إلى العربية ثم إلى العالم.

وهكذا يتضح لنا جلياً أن هذه السياسة الإسلامية المتحدرة عن القرآن الكريم قد أسفرت عن نتيجتين، مازالت آثارها مماثلة في بلادنا، هي وجود طوائف مسيحية أقرّ لها الإسلام بالحقوق الفردية والجماعية الكاملة، وبالمواطنية الشاملة في عصرنا الحديث. ألم يكن الرسول العربي الكريم هو القائل في حديثه الشهير:

"ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية، فهو عربي".

لقد عاش المسيحيون والمسلمون منذ ذاك التاريخ وإلى اليوم في هذه المنطقة بجوار بعضهم البعض بسلام ووئام وألفة واحترام. وقد ترك لنا التاريخ، وأبرزت لنا الوثائق المناقشات المذهبية الأولى التي جعلت هاتين الديانتين متحاورتين في دمشق في ظل الخلفاء الأمويين دون حرج. فكان الشاعر الأخطل (العربي المسيحي) وغيره، يدخل إلى الخليفة والصليب على صدره مفتخراً به، ومعتزاً بانتسابه إلى المسيحية، ولم يخلق هذا لدى العرب المسلمين أي شعور بالضيق، فقد كانت قبائل عربية واسعة تدين بالمسيحية، أمثال بني تغلب وطئ وبكر وبني شيبان وغيرهم، حيث ساهمت هذه جميعها مع العرب المسلمين –كما ذكرت قبل قليل- في الفتح العربي في سورية والعراق وغيرها من المناطق.

لقد جمع بين المسيحيين والمسلمين منذ البداية عوامل جامعة وقواسم مشتركة ومشاعر نبيلة واحدة تتلخص فيما يلي:

1- إيمان بالله الواحد واليوم الآخر.
2- إيمان بالقيم الروحية.
3- شعور واحد بالانتماء إلى الأرض والعروبة.

ولذلك فإن اختلاف الدين لم يفصلهم عن بعضهم، كان الإيمان بالله والعروبة والشعور بالانتماء إليهما عاملاً جامعاً بين الطرفين، ولذلك تعايشوا وتعاملوا، كأبناء أرض واحدة، ومع الزمن أضحت العروبة نسيجاً يلفّ الجميع بحيث لم يجدوا في ذلك أي تناقض مع أصولهم الثقافية والروحية، فالحس المشترك بأن الجميع أبناء هذه الأرض دفعهم إلى العيش المشترك وقبول بعضهم البعض على هذا الأساس.

على أن ذلك لا يعني أنه لم تمر بالمسيحيين ظروف قاسية عبر تاريخ هذه المنطقة شذت عن القاعدة، إلا أنها كانت دائماً من فعل الغريب وبتأثير العنصر الأجنبي. إن سيطرة الفرس والرومان، ثم الأتراك العثمانيين وغيرهم على مقدرات الدولة في عهود الاستعمار كان يثير أحياناً نزعات التعصب في النفوس في فترات من الأزمنة، بينما العرب المسلمون كانوا، كما يذكر التاريخ، متسامحين، حتى قيل فيهم: لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب.

احترم المسلمون المسيحيين، ولم يفرضوا عليهم شريعتهم، بل تَركوا لهم أمر تدبير أمورهم وفق شرائعهم الدينية، وأعطيت لرئاستهم الروحية الكنسية سلطات إدارة شؤونهم، فتعايش الجميع معاً، متضامنين في السراء والضراء.

ولما كانت حملات الفرنجة التي زحفت إلى بلادنا لاحتلالها بحجة واهية هي أنها إنما كانت تريد تخليص الأماكن المقدسة من أيدي المسلمين، حين تصدى لها صلاح الدين. انخرط المسيحيون في جيشه ووقفوا مع إخوانهم المسلمين صفاً واحداً لصد هذا الغزو الشرير إدراكاً منهم بأن المعتدي القادم إليهم غريب عن الأرض والشعب، فقاتلوا واستشهدوا مع إخوانهم المسلمين، وطردوا الغزاة وحرروا الأرض والمقدسات من رجس الاستعمار، وتنشقوا معاً عبق الحرية. فنقل المسيحيون منذ القرن الرابع عشر مركز بطريركيتهم من أنطاكية إلى دمشق في حماية المسلمين لأن الأذى لحقهم من الفرنجة المسيحيين كما لحق بالمسلمين.

وهنا نذكر بكثير من الاعتزاز أنه عندما استعاد صلاح الدين الأيوبي أنطاكية من الإفرنج أعاد معه البطريرك الأرثوذكسي إليها لأن المسيحيين اتخذوا موقفاً واحداً مؤيداً للمسلمين.وكذلك عندما استعاد الروم سورية في القرن العاشر كان البطريرك الأنطاكي آنذاك مؤيداً للحمدانيين ضد الروم.

ولئن عانى المسيحيون بسبب سيطرة العنصر الأجنبي على مقدرات الدولة من صعوبات وأزمات عديدة في ظروف شاذة إلا أنهم بقوا متمسكين بمشاعر الإخوة والمودة والتواصل والتعامل الأخوي البنّاء بالتزام وطني وحسّ أخلاقي مع إخوانهم المسلمين كأبناء لهذا الوطن ولهذه الأرض الطيبة. فما فتئوا يتجاورون في السكن في أحياء مشتركة ويتزاورون في الأعياد المناسبات الدينية والوطنية ويعايد بعضهم بعضاً ويشارك واحدهم الآخر، أفراداً وجماعات في العمل والأفراح والأتراح.

من استقراء التاريخ يتبين لنا أن شعبنا لم يعرف حروباً أهلية بسبب الدين إلا بتحريض من الأجنبي ومنذ البدء كان الإيمان والشعور القومي هو الجامع، وكان الدين وكانت العروبة طريق التعايش بين الجميع، وهذا ما بدا واضحاً في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث عمل المسيحيون في هذه المنطقة وبشكل واضح ومكثف، من أجل بعث اللغة العربية فكتبوا فيها، وألّفوا القواميس وتعاملوا بحس أخوي وقومي عربي مع إخوانهم المسلمين رافعين شعار:

"الدين لله والوطن للجميع".

كما اشترك المسيحيون والمسلمون معاً فألفوا الأحزاب السياسية والحركات القومية ضد السيطرة التركية العثمانية، وأسسوا الأندية والجمعيات والحركات الأدبية والثقافية والدينية. واستشهدوا معاً في النضال ضد هؤلاء ومشانق دمشق وبيروت التي أقامها جمال باشا العثماني السفاح، تشهد على ذلك إذ أعدمت المسيحيين والمسلمين على السواء.

إن آباءنا وإخوتنا الذين قارعوا الاستعمار الأجنبي الحديث لم يتجاهلوا دينهم، ولكن ركّزوا على عروبتهم وعلى وحدة الانتماء والمصير المشترك، وضرورة التعايش الحقيقي البنّاء.

إن مشكلة حماية الأجنبي للطوائف المسيحية، كانت ستاراً من الأجنبي للتدخل والسيطرة على بلادنا.

التاريخ والباحثون يذكرون أن في عام 1920 جاءنا الفرنسيون تحت ستار حماية الأقليات ونذكر أن كثيراً من المفكرين وكبار رجال السياسة المسيحيين وقفوا على المنابر ليرفضوا حماية فرنسا للأقليات.

يُروى عن المرحوم فارس الخوري الذي كان لفترة زمنية رئيس مجلس النواب السوري، ثم رئيساً لوزراء سوريا ومندوبها إلى الأمم المتحدة قوله في جامع بني أمية

"إن مبرر وجود فرنسا في هذه البلاد هو حماية النصارى، أنا نائب النصارى، فارس الخوري أطلب الحماية، منكم أيها المسلمون وأرفضها من فرنسا".

ويروي لنا تاريخ سورية الحديث أنه لما تم الجلاء الفرنسي عن سورية عام 1946، كان معظم الأمناء العامين في الوزارات السورية من المسيحيين ماعدا أمين عام وزارة الدفاع وهو أحمد اللحام. فجاءت رسالة من الفاتيكان لشكري القوتلي رئيس الجمهورية آنذاك، تقول بأنه لم يُحابِ ولم ينظر إلا إلى المصلحة والكفاءة.

إننا نعيش معاً، ولا نشعر بتصادم بين عروبتنا ومسيحيتنا، ولا نخلط بين أمور الدين والدنيا فنحن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله . هذا لا يعني أنه لا توجد هنا وهناك بعض مظاهر التخلف والتعصب. هذا موجود وطبيعي كما في كل مكان في العالم، ولكن الخط العام في حياتنا المشتركة عنوانه العمل المشترك من أجل المصير المشترك. فنحن المسيحيون، على امتداد الوطن العربي، كنيسةً وأفراداً، لنا فكرٌ ونضالٌ وعمل سياسي واشتراك في النضال ضد العدو المشترك، لا نقبل ككنيسة بأي مظهر من مظاهر التعصب نرفضه، ونعتبر أن التعصب أينما ظهر، إن كان عند المسيحيين أو عند المسلمين، إنما يتنكر للعروبة ويقع في مطب فلسفة الكيان الصهيوني.

فلسفة الصهاينة تقوم على العنصرية البغيضة وهي أن الدولة تقتصر على أبناء الدين الواحد فقط، ولا تقبل بالآخر. المواطنية تقوم على العنصر الديني الواحد. وتعتبر الآخر غير مقبول، لذلك فإن المتعصبين منا يعطون أساساً فلسفياً ضرورياً لبقائها، بينما فكرنا القومي والديني مبنيٌ على أن هذه الأرض هي لأبنائها، مسيحيين كانوا أم مسلمين أو يهوداً أو غير ذلك.

وهناك نماذج عن العلاقات الطيبة بين الإخوة المسيحيين والمسلمين في هذه المنطقة.

ففي العقد الأول من القرن العشرين، كان للكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية في دمشق بطريرك عظيم هو البطريرك غريغوريوس حداد كتب عنه المرحوم محمد كرد علي في مذكراته ما يلي:

عرفت صديقي البطريرك غريغوريوس حداد قبيل الحرب العالمية الأولى وبلغني عنه هذه الرواية:

بسبب المجاعة التي أصابت شعوب هذه المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى استنهض البطريرك غريغوريوس الهمم لمساعدة الجائعين والبائسين، وباع أملاك وأوقاف الطائفة الكثيرة في سورية ولبنان ليشتري بها طعاماً للمحتاجين، حتى قيل أنه باع الصليب الذهبي الذي أهداه إياه قيصر روسيا آنذاك نقولا الثاني ليؤمن احتياجات الفقراء، وكان يقدم العون لكل محتاج دون تفريق في الدين والمذهب.

ثم كان مرة من نافذة غرفته المطلة على ساحة البطريركية يراقب الشماس يوزع الخبز على طالبيه، فلفت نظره أن الشماس رد امرأة مسلمة ملتحفة لأنها ليست مسيحية، محتجاً أن القمح قد نفذ في مخازن البطريركية، نزل إليه البطريرك ونادى المرأة، وقال للشماس، أعطني رغيف خبز، فلما تناوله قلَّبه بيده، وقال للشماس:

"أنا لم أرَ أنه قد كُتب على الرغيف أنه مصنوع من أجل المسيحي الأرثوذكسي، يا بني ادفع الصدقة لكل من يطلبها فالخلق كلهم عيال الله"، وناول المرأة حصتها فانصرفت شاكرة.

كما يُروى عن غبطته أيضاً أنه كان أول من بايع الملك فيصل عندما توِّج ملكاً على سورية. وبعد معركة ميسلون، وبينما الجيش الفرنسي يستعد لدخول دمشق، غادر الملك فيصل بالقطار الحديدي العاصمة، إلا أنه فوجئ بالبطريرك غريغوريوس قادماً وحده إلى محطة الحجاز ليودعه قائلاً:

"هذه اليد التي بايعتك ستبقى على العهد إلى الأبد".

ولما مات بطريركنا عام 1928 جرى تشييع جثمانه من بيروت إلى دمشق، فاستقبلت الحكومة السورية جثمانه على الحدود بإطلاق مئة طلقة وطلقة من المدفعية تحية له. وأرسل الملك فيصل من بغداد إلى دمشق مئة فارس على الخيل ليشتركوا في تشييع جثمان البطريرك القديس في العاصمة السورية. أما في بيروت فقد رثاه الشيخ مصطفى الغلاييني قائلاً:

"نعيتُ إلى أمي العجوز نبأً مفاده لقد أصاب العرب مصابٌ أليمٌ"

فأجابتني: وهل مات غريغوريوس الحكيم ؟.. 

كما يروى أن الجثمان عندما وصل إلى ساحة الشهداء في بيروت شرع أحد التجار المسلمين يرش الملبس على الطريق أمام الجثمان صائحاً:

إن هذا القديس قد أعالني أنا وعائلتي طيلة الحرب العالمية الأولى.

ويروي محمد كرد علي في مذكراته فيقول:

لما وصل جثمان البطريرك إلى دمشق، كان المسلمون هم الذين تولوا الاحتفال بتشييعه، حتى أنه أثار دهشة الأوروبيين يومئذ بسبب احتفال المسلمين برئيس ديني لا صلة لهم به في الظاهر.

ويستطرد محمد كرد علي : سألني بعضهم عن سبب ذلك، فقلت: "لا تعجبوا لهذا الحب المتجلي الآن، فتحابب الناس متصلاً في قلوبهم في هذه البلاد من زمن طويل، ورجل من عيار هذا الراحل العظيم تحبه جميع الطوائف، لأنه على شدة تمسكه بدينه، ما غفل عن حقوق وطنه ومواطنيه، ومع أنه بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وطائفته في هذه الديار أكبر الطوائف النصرانية عدداً، فهو أقرب الرجال إلى قلوب السواد الأعظم من السكان، وكثيراً ما أطلقوا عليه اسم بطريرك المسلمين محمد غريغوريوس".

كما أطلقوا عليه اسم بطريرك العرب، كما أطلقوا في عام 1975 على بطريركنا الراحل السابق الياس الرابع معوض في المؤتمر الإسلامي في لاهور، نظراً لمواقفه الوطنية والقومية المعروفة. 

في عام 1938 عُيِّن الكومندان كوليه حاكماً للواء اسكندرون، وكان مكلفاً بتتريك عرب اللواء بأي ثمن كان فاعتَقَلَ وعَذَّب وهدَّد العرب هناك من مسيحيين ومسلمين. ومرة دعا رجال الدين الأرثوذكس رعاة المسيحيين هناك وقال لهم بلهجة الناصح والمهدد معاً:

"إنني مسيحي وأعتز بديني، واعتزازي بديني لا يسمح لي أن أسجلَ مسيحياً بكونه عربياً فالمسيحي مسيحي فقط، والمسلم وحده العربي".

فأجابوه بهدوء :

"إن كان الدين المسيحي يقف حائلاً أمام عروبتنا، فإننا مستعدون لجعل جميع مسيحيي لواء اسكندرون مسلمين منذ هذه اللحظة، إننا عرب و العروبة  وجود و كيان، و الدين عقيدة و إيمان و هما لا يتناقضان. هل ترضى يا حضرة المفوض أن تتخلى عن قوميتك الفرنسية لتعتنق القومية الألمانية باعتبارك مسيحياً".

فثارت ثائرته و طردهم من أمامه.

أحداث كثيرة يذكرها التاريخ ولعل من أهمها ثلاثة :

الحدثان الأولان هما أنه كان للنصرانية الأرثوذكسية يومان أغرّان في تاريخ العرب القومي :

يوم في الشام، ويوم في العراق.

أما يومها في الشام فقد كان حينما زحف الإسلام من الحجاز إلى هذه الديار ليحررها من استعمار الإمبراطورية البيزنطية. فقد رفض النصارى العرب أن يحاربوا في صفوف الجيش الروماني وانضم كثيرون منهم إلى صفوف العرب المسلمين وقاتلوا جنود قيصر.

وأما يومها في العراق فقد كان حينما انضم المثنى بن حارثة على رأس قبائل بني شيبان إلى جيش سعد بن أبي وقاص في فتح بلاد العجم في قتال كسرى. وكان شباب بني شيبان النصارى الأرثوذكس على أبواب القادسية، يهتفون للفتح العربي القومي ويحاربون لتحرير العرب من استعمار الفرس.

هذان يومان أبيضان يحفظهما تاريخ العرب والإسلام للنصرانية الأرثوذكسية في أشرق صفحة من صفحاته. فقد نسيت هذه الأرثوذكسية الخلاف بينها وبين الإسلام في الدين أمام دفع الأجنبي عن الوطن. ولكنها ذكرت القومية فانضمت إلى لوائها وتحمست للعروبة في سبيلها.

أما الحدث الثالث، فهو يوم أنطاكية ، فقد أتى على ذكره الأستاذ زكي الأرسوزي، وكان في كانون الثاني 1937، عندما جاء  فريق من أعضاء لجنة المراقبة الدولية إلى أنطاكية ليحققوا في دعوى الأتراك في سلخ لواء اسكندرون عن سورية وضمه إلى تركيا. فأغلق الأتراك المساجد يوم الجمعة في وجوه المسلمين من العرب السوريين ليمنعوهم من الصلاة والتظاهر أمام اللجنة الدولية تأكيداً لعروبة أهل لواء اسكندرون. كذلك ليؤكد الأتراك للعالم أن تركية الجمهورية اللادينية الجديدة قد تخلت عن دينها و إسلامها، وأنها أصبحت دولة أوروبية علمانية!..

فما كان من النصارى الأرثوذكس إلا أن فتحوا خلال ساعة واحدة من المنع التركي كنائسهم البيزنطية الرومانية وأحالوها إلى مساجد للمسلمين يؤدون فيها صلاة الجمعة في أعظم مهرجان وطني قومي. وصلّى المسلمون لأول مرة في حياتهم صلاة الجمعة في الكنائس إلى جانب النصارى.ووقف خطيب المسلمين في هيكل المسيح يتلو القرآن وصعد مؤذنهم إلى قبة الناقوس ليرفع الآذان. وكان موقف المسيحي التلقائي والعفوي هذا سبباً في حدوث أروع حادثة وطنية في تاريخ النضال السوري من أجل عروبة أهل لواء اسكندرون قوّت في نفوس السوريين رابطة القومية العربية في ظل الدين الإسلامي والدين المسيحي، بعد أن كانوا يقولون أن الأديان تهدم القوميات. وإذا بهذا الموقف الديني يحمي القومية العربية ويشد أزرها ويدافع عنها أمام الخطر الأجنبي الداهم. وإذا بها أيضاً أعظم مظاهرة سياسية أمام لجنة دولية جاءت لتشهد مقدار دعوى الأتراك في هذا اللواء العربي السليب. فكانت أبلغ دفاع عن عروبة الإسكندرونيين واتحاد سكانه. 

وأصبح للنصرانية الأرثوذكسية في التاريخ العربي يوم ثالث، بعد يوم الشام ويوم العراق، هو يوم أنطاكية.

هذه أمثلة عن المحبة والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين.

القرآن الكريم يقول للمسلمين:

"ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا إنّا نصارى وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون"(سورة المائدة )

"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظَلَموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا، وإلهُنا وإلهُكم واحدٌ ونحن له مسلمون".

والكتاب المقدس والكنيسة يحثان المسيحيين على المحبة والسلام والتعايش الأخوي مع مواطنيهم، وعلَّمتْهم أن يعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وبذلك منحتهم حرية الخيار السياسي باعتبارهم مواطنين يمكنهم أن يباشروا نشاطهم السياسي بما يتفق مع مصلحة وطنهم. 

إن بلادنا سورية تمتاز بخصوصية ذات فرادة، فهي تشكل خلاصة تاريخ حضاري طويل وعلى أرضها التقت الحضارات وتعاقبت المدنيات، إلى جانب أنها مهبط الوحي والديانات الإلهية وأرض النبؤات والرسالات السماوية، فيها صيغت إبداعات الإنسان في مجالات الدين والفكر والفن وعلى أرضها تكون التراث الإنساني الفريد بعناصره المتشعبة فغدت بلد العراقة والأصالة في التاريخ إذ نقلت الحضارة إلى العالم وهي لا تزال إلى اليوم تسهم في صنع الحضارة الإنسانية. وستبقى نموذجاً يُحتذى به في التعايش الأخوي والتعامل والتعاون الحضاري والحس الوطني السامي بين جميع أبناء الوطن الواحد مسلمين ومسيحيين. وهذا ما يضعنا أمام مسؤوليات حفظ هذا التراث القومي العظيم وتسليمه إلى أولادنا من بعدنا ليبقى وطننا منيعاً وشعبنا عزيزاً يحتل مكانته بين الشعوب.

إن الإستراتيجية التي يجب اعتمادها في علاقاتنا الإسلامية المسيحية هي استراتيجية التواصل والحوار البنّاء المبني على المحبة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين كشعب واحد في الوطن الواحد، لا استراتيجية الصراع والصدام لأن استراتيجية الحوار هي الكفيلة والقادرة على بناء جسور المودة والوفاق والثقافة وعلى تأسيس علاقات إيجابية بين الطرفين. إن التعايش الأخوي والصلات التاريخية لمسير الإسلام والمسيحية هما جناحا العروبة معاً في المسيرة الوطنية وهو اليوم ضروري أكثر من أي وقت مضى، فهو يعزز وحدتنا الوطنية ويقوي جبهتنا الداخلية ويوحِّد صفوفنا ويدعم صمودنا في وجه كل من تسوِّل له نفسه اختراق وحدتنا وعرقلة التفافنا حول قائد مسيرتنا الذي يقود معركتنا ضد الصهيونية والاستعمار من أجل تحرير الجولان وجنوب لبنان والقدس الشريف وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه بالعودة إلى دياره وتقرير مصيره ولإقامة دولته على أرضه وممارسة حقه في الحياة الحرّة الكريمة وتحقيق السلام العادل والشامل في منطقتنا بأسرها.. 

وهكذا ينبغي أن يستمر تيار وحدتنا الوطنية في التدفق عبر الأجيال المقبلة تراثاً نعتز به ونسهم بواسطته اليوم وغداً كما أسهمنا في الماضي مسلمين ومسيحيين في المسيرة الوطنية لتعزيز الأمن والسلام  ليس في منطقتنا العربية فقط بل وفي العالم أجمع.

المثلث الرحمات مطران حلب والاسكندرون وتوابعهما للروم الأرثوذكس المطران الياس يوسف
   محاضرة ألقاها على مدرج جامعة حلب عام 1999

 

 

                                       

 

الصفحة الرئيسية  |  الكنيسة  |  آبائيات  |  دينيات  |  مقالات  |  نشاطات  |  معلومات  |  أماكن مقدسة  |  خريطة الموقع  |  أتصل بنا
© 2006-2009 الأب الكسندروس اسد. جميع الحقوق محفوظة - تصميم وتطوير اسد للتصميم