يحثنا القديس يوحنا ذهبي الفم على الصلاة الدائمة، لأنه ما من شيء يؤدِّي إلى الفضيلة مثل أن نتكلَّم دائماً مع الله، وأن نقدِّم له الشكر دوماً ونسبِّح الله.
وكان الذهبي الفم على مدى حياته كلها يشير إلى أن داود النبي مجَّد الله بكلماته كما بأعماله وينصح القديس الذهبي الفم قرَّاءه، أنه في أوقات التجارب والمحن والاضطهادات فلنفعل كما فعل داود ونُقدِّم المجد لله ولا نكفّ عن أن نباركه وسواء كُنَّا شيوخاً أو شباباً، فيجب أن نُقدِّم الشكر لله، وكما يقول ذهبي الفم، فإن هذا هو غرض المزمور 148 أنه يُبيِّن لنا أنه لابد أن نُسبِّح الرب على كل شيء، بصرف النظر عمَّن نكون نحن، كما يجب أيضاً أن نثابر في صلواتنا وتوسُّلاتنا ولا نيأس إذا لم تُستَجَبْ في الحال.
صــلاة التوبــة:
أما صلاة التوبة فهي نوع آخر من الصلاة التي تتطلَّب الدوام فيها والمثابرة عليها، فحينما يشرح المزمور/ 6: 6/”أغسل كل ليلة سريري، وبدموعي أبلُّ فراشي“، يقول الذهبي الفم إن المرنِّم هنا كان يقضي كل حياته في دموع التوبة، وهذا مَثَل لنا في كيف يجب أن نتصرف حينما نخطئ: أن نفصل أنفسنا عن كل مَن يُخطئ، ونصلِّي إلى الله بدموع كل ليلة فوق سرير نومنا، إن القديس الذهبي الفم يرى في المزامير نموذجاً لنا في الصلاة الدائمة ففي كل ظرف من ظروف الحياة يلتفت المرنِّم إلى الله بالصلاة، وحينما نثابر في الصلاة فسوف ننال ما نسأل من أجله، إن كان نافعاً لنا.
نسأل ما هو نافع حقًاً، وليس الأمور الأرضية:
أن نطلب ما هو نافع معناه أن لا نطلب الأمور الأرضية بل نطلب ما هو حقًّا نافع لنا، هكذا يعلن القديس الذهبي الفم. وصلاة المزمور( 140) (الترجمة السبعينية) هي هذه الصلاة بعينها، ويشير الذهبي الفم أن داود في هذا المزمور لا يسأل شيئاً ضد أعدائه، ولا يسأل غِنىً ولا ازدياداً ولا قوةً ولا مجداً ولا سائر الأشياء الزائلة، بل فقط الباقيات والخالدات.
ويأخذ الذهبي الفم سليمان الملك كنموذج آخر لمن استُجيبت صلاته، لأنه سأل الروحيات، فقد سأل سليمان الذهن الفهيم ليحكم به شعبه (3 ملوك 3 في السبعينية، وهي تساوي 1 ملوك 3 في الطبعة المتداولة)، وقد كافأه الله على صلاته الروحية هذه فأعطاه حتى ما لم يسأله، فقد نال ليس فقط الحكمة العالية، بل وأيضاً غِنَىً وكرامة عظيمتين.
وكما يشرح ذهبي الفم، فإن المرنِّم حينما يُصلِّي: ”اهْدِني يا رب ببرِّك“ (مز 5: 9)، فإن هذا السؤال ليس من أجل أشياء فانية وعابرة في هذه الحياة، بل من أجل التعضيد من العُلا، لأننا ونحن في هذه الحياة، التي هي كمثل طريق، نحتاج إلى الله هادياً لنا ليمسكنا بيده ويُرينا الطريق، ويؤكِّد الذهبي الفم على أنه من الضروري أن نطلب معونة الله إن كنا نريد أن ينجح جهادنا، يقول المرنِّم في مزمور( 142: 10):”علِّمني أن أصنع مشيئتك، لأنك أنت إلهي“
فكل صلواته كانت روحية؛ إذ لم يسأل مالاً ولا قوة ولا مجداً، بل أن يصنع مشيئة الله، وأيضاً في مزمور (143) يشرح الذهبي الفم، أن المرنِّم يزدري بكل متاع الدنيا ويُعلن: ”طوبى للشعب الذي الله هو إلهه“ (مز 143: 15)، أما الشهوات الخاطئة، والجنوح نحو أمور هذه الحياة والتعلُّق بالأرض، فإنها تُضعف القلب، فالفضيلة هي الشيء الوحيد الجدير باقتنائها في هذه الحياة، هذه هي الأشياء التي علينا أن نسألها في الصلاة، حسب شرح الذهبي الفم.
ويُقدِّم الذهبي الفم توسُّعاً في شرح هذه النقطة، وهو يشرح مزمور (7: 11)، حيث يقول النبي: ”مُعيني هو بار“. ويشرح الذهبي الفم ذلك: هذا يعني ”فليتعاملْ الله معي بطريقة بارة (عادلة) لأني لم أسأل شيئاً غير عادل“. فإن كنا نريد أن نتمتع بالتعضيد من فوق، فلنسأل فقط ما هو متوافق مع العدل، وذلك حتى من طبيعة هذا التوسُّل نتأكَّد من المعونة الآتية مِن ”الذي يُنجِّي المستقيمي القلب“ (مز 7: 10)، لكن صلاتك لن تكون بارة إن سألتَ غِنَى أو جمالاً أو أي نعمة أخرى عابرة تتصل بهذه الحياة الحاضرة.
وحتى إذا كان المصلِّي بارًّا، فقد لا تكون صلاته مستجابة إذا لم تكن من أجل شيء نافع، هكذا يقول الذهبي الفم في شرحه مزمور( 15:7) [لأنه مَن كان أكثر برًّا من القديس بولس؟. ولكن لأنه سأل شيئاً ليس نافعاً، فلم يُستَجَبْ له، حيث يقول القديس بولس: «من جهة هذا تضرَّعتُ إلى الرب ثلاث مرات أن يُفارقني، فقال لي: تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكْمَلُ» (2كو 12: 8 و9)، وأيضاً مَن كان أكثر برًّا من موسى النبي؟.. وهذا أيضاً لم يُسمَع له، حيث قال الله له: «كفاك، لا تَعُدْ تُكلِّمني أيضاً في هذا الأمر» (تث 3: 26)، لأنه كان يسأل الله أن يدخل إلى أرض الموعد، وكان هذا الطلب غير نافع له، فلم يسمح الله بذلك.
ملاحــظات ختاميــة:
إن الذهبي الفم في كتابه شرح المزامير، يتفوَّق في عظاته الرعوية المشهور بها جداً، وإن الشروط الستة لاستجابة الله للصلاة كما يُعدِّدها في ”شرح مزمور( 7)“ تحيط بكل نواحي الحياة اليومية، فالشخص المصلِّي قد يكون مستحقاً لنوال إجابة صلاته فقط حينما يعيش الحياة الصالحة والتَقَويَّة، ويحث ذهبي الفم متواتراً قارئه لسلوك هذه الحياة، بحيث إن كل شيء يقوله الذهبي الفم يهدف من ورائه أن يجذب الإنسان ليكون أكثر التصاقاً بالله وأكثر بُعْداً عن الخطية.
ولأن نوعية حياة الإنسان تؤثـِّر مباشرة في فاعلية صلاته، فإن كل عظات ذهبي الفم تتصل بالصلاة، لكن هذه الملاحظات التي تعقد رباطاً بين الاثنين: الحياة والصلاة تُعتبر بمثابة ”خريطة طريق“ للإنسان المُصلِّي، وهذا هو ما تُلقي عليه الضوء هذه الدراسة التي نُقدِّمها.
وبنفس الطريقة، فإن الصلاة في توافقها مع شرائع الله، والصلاة الدائمة، وعدم سؤال الأشياء الأرضية؛ بل سؤال الأشياء التي هي حقًّا نافعة لنا، هي توجيهات يحاول بها الذهبي الفم أن يدفع القارئ إلى سلوك الطريق الصحيح نحو الله، وحينما نوفي كل هذه الشروط، فإننا حينئذ فقط نكون قد اشتركنا بكل ما في مقدورنا عمله.
يقول الذهبي الفم إن غاية كل مجهوداتنا الدائمة، يجب أن تكون ليس فقط أن نصلي، بل أن نصلي ونحن في الحالة التي فيها تُستجاب صلواتنا، ثم يواصل الذهبي الفم توضيحه، أن الصلاة وحدها ليست كافية لننال ما نسأل من أجله، إن لم نضع في اعتبارنا هذه الشروط التي تجعل صلاتنا مقبولة لدى الله، فالفرِّيسي صلَّى، لكن صلاته لم تنفعه شيئاً واليهود كانوا يصلُّون، لكن الله انصرف عن صلواتهم لأنهم لم يصلُّوا بالشروط المطلوبة، لهذا يوصينا الله أن نُقدِّم له صلاتنا في الوضع الذي يجعلها مسموعة، وهذا هو ما علَّمنا إيَّاه داود في مزمور( 6). وهو ليس وحده الموضع حيث يُعلِّمنا داود عن الصلاة لكي تكون مُستجابة، ففي كل المزامير - كما يقول الذهبي الفم - كان داود يحثنا على معرفة الله وسلوك الحياة المقدسة، إنه يتولَّى دور المعلِّم كما يتولَّى دور النبي كذلك، حيث يمزج المشورة بالصلاة أحياناً، وأحياناً يمزج التشجيع بها.
وفي مزمور 148 يُظهِر لنا داود أنه لا يكفي أن نرتل بالتسبيح لله بأنفسنا فقط، بل وبكل الخليقة التي يجب أن تشترك في تسبيحات الأتقياء: ”سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا كل النجوم والنور.“ (مز 143: 3).
وفي شروحات الذهبي الفم على المزامير التي هي حقًّا صلاة داود، فإن هذه الشروحات تُقدِّم ليس فقط حثـًّا وإرشاداً على الصلاة، بل هي أيضاً عمل جوهري على ربط الصلاة بشخص النبي داود وبتعاليم القديس بولس الرسول، إن هذه الدراسة بما فيها من معلومات ليتها تكون نافعة لطالبي الصلاة والحياة الروحية، وكذلك لطالبي دراسة التعليم الآبائي الكنسي، وعلم التفسير.
وفي دراسة عن العهد القديم يقول الكاتب: ”هناك أسفار قليلة في العهد القديم قُرئت أكثر من المزامير، إما لأنها جزء من الليتورجية، وإما من خلال الدراسة الشخصية، وقد بَدَت أنها مُحببة إلى قلوب المؤمنين“، وإني أعتقد أن هذا هو المستوى الذي بلغ إليه نبوغ الذهبي الفم بأكثر وفرة، إذ حيث لمست شروحات الذهبي الفم ”القلب البشري ودوافعه وضعفه، أو بشـَّرت بنعمة ومحبة يسوع المسيح، فهنا يرتفع ذهبي الفم ويدوم ليصير بحق معلِّماً في إسرائيل".“
وكما تلمس المزامير نفسها قلب الإنسان، هكذا أيضاً فعلت شروحات الذهبي الفم على المزامير.
ستة شروط لاستجابة الله لصلواتنا:
1: أن تكون جديرة بالقبول من الله.
2: أن يُصلِّي الإنسان بما يتوافق مع شرائع الله.
3: أن يُصلِّي الإنسان على الدوام وباستمرار.
4: أن لا نطلب متاع الأرض في صلواتنا.
5: أن نطلب ما هو نافع حقًّا لنا.
6: أن نفعل كل ما في مقدورنا فعله من صلاح