"هذه كنيسة تعلقت قبتها بالسماء بسلسلة ذهبية، ترى فيها صورة المدينة الإلهية"
هكذا وصف المؤرخ بركوبيوس كنيسة آجيا صوفيا في اسطنبول، إنها كنيسة جسّدت منذ بنائها نموذجاً عن الدولة البيزنطية ومكانتها، فجمعت بين السلطة الإمبراطورية والتقليد المسيحي الشرقي.
تحفة فنية سحرت القدماء بهندستها وزخرفتها وغناها، وهي الآن في اسطنبول معلم أرثوذكسي قست عليه الطبيعة، وجنت عليه يد الإنسان، كيف بُنيت؟.. ومَنْ وضع هندستها ؟.. وماذا بقي منها ؟.. هذه الأسئلة وغيرها يحاول أن يجيب عنها هذا التقرير.
لمحة تاريخية:
ارتبط اسم كنيسة آجيا صوفيا، بأحد أهم العصور الفنية الخلاقة، واعتمدها البطاركة أيضاً كاتدرائية البطريركية المسكونية في القسطنطينية، لحقبة دامت أكثر من ألف سنة.
عرفت أولاً، بالكنيسة الكبرى نسبة إلى ضخامتها، مقارنة مع الكنائس الأخرى في العالم المسيحي آنذاك وأعطيت لاحقاً اسم آجيا صوفيا أو "الحكمة الإلهية".
المرجح أن الإمبراطور قسطنطين الكبير هو الذي شيَّد أولاً كنيسة الحكمة الإلهية على أنقاض معبد وثني للإله أبولـون على تلـة تشـرف بحر مرمرة، من المعلومـات القليلـة حول هذه الكنيسة، نعـرف أن ابن قسطنطين الكبير الإمبراطور كونستانسيوس الثاني(337-361) هو الذي أتم بناء الكنيسة، ودشنهـا في عام 360م، ونعلـم أيضاً أنها كانت على النمط البازيليكي المستطيل، ومسقوفة بألواح خشبية.
المجمع المسكوني الثاني التأم في آجيا صوفيا عام 381م، على زمن ثيوذوسيوس الأول (378-395)م وبعد حوالي عشرين سنة وفي حزيران 404م، غضب الشعب المؤمن من جراء نفي القديس يوحنا الذهبي الفم فأحرق الكنيسة.
ثم أعاد بناءها ثيوذوسيوس الثاني (408-450)م، وكرسها عام 415، ومن طراز بنائها نستدل على بعض المعلومات الهندسية كالساكف (العتبة العليا من الباب)، الذي نحتت عليه حملان ترمز إلى التلاميذ إضافة إلى نوعية الحجارة المستخدمة.
إلا أن هذه الكنيسة اُحرقتْ مرة ثانية خلال أعمال الشغب التي حدثت في ثورة نيقا وبالتحديد في 15/كانون الثاني/532م.
وعلى اثر قمع الثورة الرهيبة قرر الإمبراطور يوستينيانوس تشييد كاتدرائية مكان الكنيسة المحترقة على التلة بين ميدان الخيل والأبنية البلاطية.
كلف يوستينيانوس مهندسين معماريين هما انتيميوس من ليديا وايزودوروس الايوني أشهر مهندسي آسيا الصغرى في تلك المرحلة، لم يشأ أن ترمم الكنيسة بل أن تبنى من جديد، فاستغرقت الأعمال خمس سنوات وعشرة أشهر (532-537)م، وفي 27/كانون الأول/537 كرّس البطريرك ميناس الكنيسة الجديدة.
بعد حوالي عشرين سنة في 17/أيار/557م، تسبب زلزال قوي بأضرار قوية في القبة إلي تساقطت أجزاء منها محطمة المذبح وبيت القربان، وعهد إلى ايزودوروس الحفيد بترميم الكنيسة، فاستخدم مواداً خفيفة الوزن ودعّم القاعدة، وأعيد تكريس الكنيسة في 23/كانون الأول/563م.
من حين إلى آخر كان الأباطرة يرممون الكنيسة، ويقدمون لها عطايا كثيرة، ونذكر على سبيل المثال أن الإمبراطور موريقيوس (582-602)م، قَّدم تاجاً ذهبياً، اما باسيليوس الأول (867-886)م، فرمم فسيفساء والدة الإله، وباسيليوس الثاني (976-1025)م، رمم الأضرار التي خلفها زلزال 989م، ورومانوس الثالث ارغيروس زيَّن الكنيسة بالذهب، ويوحنا الثاني كومنينوس أعطى مالاً كثيراً وأراضي واسعة، البطريرك جاورجيوس الثاني (1192-1199)م، رمم الكنيسة من الداخل والأيقونات.
لم توفر الحملة الصليبية عام 1204م، الكنيسة فقد دخلها الجنود وعاثوا فيها فساداً، ثم استخدمها الغربيون كنيسة لهم، ولكن كان لا بد من ترميمها وتدعيمها بسبب وضعها المتزعزع الناجم عن الهزات المتكررة، وقد ظنوا أنهم لن يتخلوا عنها، فعملوا جاهدين على تقويتها، وتميزت الحملة الرابعة بوجود فرنسيين وبنادقة خبراء في شؤون البناء، ولا تزال آثار عملهم ظاهرة حتى اليوم، ولا يمكن أن ننكر أنهم ساعدوا على الحفاظ على هذا الأثر الضخم، رغم أن سنوات احتلالهم (1204-1261) تكللت بنهب الكنائس والأديار، وحتى القصر الملكي وإفراغها من مخطوطاتها وكنوزها التي أودعت في متاحف أوروبا وكنائسها وأديارها.
نقطة التحول الأساسية، في تاريخ الكنيسة وقعت يوم الثلاثاء 29/أيار/1453م، عندما دخل السلطان محمد الفاتح المدينة المهزومة بعد ظهر ذلك النهار المشؤوم، وحين وصوله إلى الكنيسة انبهر بجمالها، وقرر تحويلها إلى جامع وبناء المآذن الأربع حولها، كما أمر بتذويب الأجراس لصنع المدافع من موادها.
في عام 1935، ومع تحول تركيا الحديثة إلى دولة علمانية، اصدر الرئيس مصطفى كمال أتاتورك قراراً يحول بموجبه مسجد آجيا صوفيا إلى متحف يضم كنوزاً مسيحية وإسلامية.
جولة في الكنيسة:
قبل أن تتخطى عتبة الكنيسة لا بد من زيارة أنقاض كنيسة آجيا صوفيا الثانية التي وجدت أمام المبنى والحفريات التي أجريت كشفت الواجهة التي بناها ثيوذوسيوس الثاني، إضافة إلى جزء من السقف والباب وهذه كلها تدل على هندسة القرن الخامس الميلادي.
الواجهة أعيد ترميمها وأضيفت إليها الأعمدة والقناطر والعوارض، لكن بالطبع باقي أجزاء الكنيسة لا يزال تحت الأرض، والكنيسة التي بناها يوستينيانوس كانت فوق هذه البقايا، أما الحفريات فقد أجراها العالم الألماني شنايدر عام 1936.
المدخل الرئيسي يقود إلى النارثكس الخارجي الذي يبلغ طوله ستين متراً، في العهد البيزنطي خصص هذا القسم للموعوظين، أما الأبواب نحو المآذن التي شيدت في العصر العثماني فهي في الطرفين الشمالي والجنوبي.
في الأساس كانت سبعة أبواب من الردهة الخارجية إلى النارثكس، واليوم اثنان فقط يستخدمان، معظم المعروضات في النارثكس بيزنطية وجدت في أماكن مختلفة، منها الألواح التي دونت عليها مقررات المجمع المنعقد عام 1166م.
ومن النارثكس الخارجي إلى الداخلي حيث أبواب السنديان المزين بالبرونز تعود إلى العصر البيزنطي هنا السقف مغطى كله بالفسيفساء الجميلة.
تسعة أبواب تقود إلى صحن الكنيسة، الثلاث الوسطى منها يستخدمها الإمبراطور ليدخل الكنيسة، سابقاً كانت هذه الأبواب مغطاة بقطع من الفضة والذهب، وقد سرقها جنود الحملة الصليبية الرابعة، وللأسف أيضاً بعض الأبواب الأصلية قد نهب.
القبــة:
بين القرنين الأول والسادس تطور فن العمارة والبناء في العالم المسيحي، بدليل الأبنية الضخمة والفريدة المنتشرة في كل الإمبراطورية، فالإمبراطور يوستينيانوس أعجبه مخطط كنيسة القديس سرجيوس وباخوس وليونتوس في بصرى جنوب سوريا، فهذه الكاتدرائية بنيت في عام 512م، وكان قطر القبة 38 متراً، لكن المواد المستعملة في البناء كانت ثقيلة جداً، لم تحملها الأعمدة فهوت القبة وسقطت، أما آجيا صوفيا فقد تجنب المهندسان انتيميوس وازودوروس الأخطاء التي حدثت في بصرى، ولهذا بقيت الكنيسة بقبتها الرائعة حتى اليوم.
وشهد عصر يوستينيانوس أيضاً حلاً لمعضلة كبيرة، وهي الانتقال من المربع إلى الدائرة، أي أن تكون القبة دائرية فوق قاعدة مربعة أو مثمنة، اذ استعملت البلاطات في المدماكين الأخيرين بشكل هندسي مميز يحوِّل المربع تدريجياً إلى دائرة تحمل القبة.
بعض الأرقام عدد الاكليريكيين والعلمانيين الذين خدموا في آجيا صوفيا:
80 - كاهناً
150 - شماساً
40 - شماسة
60 - شماساً معاوناً
160 - قارئاً
25 - مرتلاً
75 - بواباً
هذه التقنية اختبرت أولاً في كنيسة القديس جاورجيوس في ازرع جنوب سوريا، ثم في كنيسة القديسين سرجيوس وباخوس في القسطنطينية قبل أن تعتمد في آجيا صوفيا.
وقد نقل الامبراطور يوستينيانوس أيضاً نظام الإضـاءة المستعمـل في كنيسـة القديس جاورجيوس في ازرع، معتمداً النوافذ الصغيرة على قاعدة القبة.
هذه القبة مبنية بحجارة خفيفـة، وداخلها مزين بالفسيفسـاء، سابقـاً كان الضابـط الكل يحتل وسط القبة، لكن في القـرن التاسع عشـر أبدل بآيـات من القرآن، أربعون نافذة صغيرة على قاعدة القبة تنير داخل الكنيسـة وهي كلها مزينـة بالفسيفساء وفي الجهات الأربع الشاروبيم ذوو الستة الأجنحة، وخلال آخر ترميم اجـري في القــرن التاسع عشر حجبت وجوه الشاروبيم بأوراق ذهبية، يبلغ مجمع النوافـذ في الكنيســة سبعين تؤمن الضوء المشعشع وفي بعض ساعات النهار تسلل أشعة الشمس لتضفي رونقاً أخاذاً عللا داخل الكنيسة.
الرخــام:
استقدم الرخام الملون من كل أرجاء الإمبراطورية، ويقال أن الرخام الأبيض من اليونان، والأخضر من جزيرة ايغريبوز، والوردي من مرمرة، والأصفر من أفريقيا، والرمادي من شمال أفريقيا، وكانت الأعمدة والجدران كلها مكسوة بالرخام، والجدير بالذكر أن عدد الأعمدة يزيد على /107/ أحضرت من معابد قديمة من روما، وبعلبك، ومصر، ومن معبد ارتيميس في افسس، كما أن بعض الأعمدة نحت خصيصاً لكنيسة آجيا صوفيا في تيسالي على جزيرة مرمرة.
مكتبة آجيا صوفيا:
وهي احد أجمل المباني التي شهدها العصر العثماني شيدت على زمن السلطان محمود الأول (1739) تضم المكتبة مخطوطات وكتباً قديمة وقيّمة إضافة إلى تحف نادرة.
هندسة الكنيسة:
عمل تحت أشراف المهندسين عدد كبير من المتخصصين في البناء والنحت، جاؤوا من أرجاء الإمبراطورية، ما أنجزه انتيميوس وايزيدوروس كان فناءً واسعاً من دون مقاطع أو قناطر أو دعائم، فجمعا بين تقليدين متناقضين في الهندسة المسيحية، المخطط المستطيل والمستدير المقبب يظهر المخطط أن البناء مربع، في وسطه مثمن تعلوه قبة مدعمة بالأعمدة والأقواس، فوضعا أمام القبة المركزية وخلفها، أي على مستوى الأقواس الداعمة، نصفي قبة لهما القطر ذاته، وتدعمان القبة الكبرى على المحور الطولي، إذاً، هذا النظام كان فعالاً في حماية الكنيسة التي تبلغ مساحتها (2700) متراً مربعاً، بطول /80/ متر وعرض /34/ متر.
البناء في مجمله يفوق عشرة آلاف متر مربع، ارتفاعه /56/ متراً، في الأساس الارتفاع كان /51/ متراً ولكن بعد زلزال عام /557/ رمم ايزودوروس الحفيد القبة ورفعها خمسة أمتار.
الفسيفساء:
قطع فسيفساء قليلة نجت من الكوارث التي لحقت بكنيسة آجيا صوفيا، وهي تشهد للمراحل الأساسية من تاريخ فن الفسيفساء التي يمكن حصرها بين القرنين التاسع والثالث عشر.
فسيفساء الشفاعة:
من هذه الفسيفساء واحدة كبيرة تكسو الجهة الجنوبية للمكان المخصص للموعوظين، وتمثل أيقونة الشفاعة صنعت بنمط جديد ساد في القرن الثالث عشر في القسطنطينية، واتسم بمقاييس جمالية وكلاسيكية، وفي الوقت نفسه كان يشير إلى شعور عام بعدم الاطمئنان إلى مستقبل الإمبراطورية.
فسيفساء الشفاعة
يرقى تاريخ فسيفساء الشفاعة إلى مرحلة ما بعد ترميم الكنيسة، أي في الربع الثالث من القرن الثالث عشر وذلك للتعبير عن امتنان المدينة وأهلها لانتصار الإمبراطور ميخائيل باليولوغوس (1261-1282)م على الفرنجة أو الصليبيين.
ألوان الحجارة المستعملة دافئة والخلفية ذهبية، أما التعابير فتنم عن روحانية عميقة، يسوع المسيح في الوسط يحمل في يده اليسرى إنجيلاً مغلقاً، ويبارك بيده اليمنى معبراً عن رحمة الله وعطفه على البشر، في حين ترنو إليه أنظار أمه والصابغ يوحنا المعمدان مقدمين له الإكرام والإجلال.
فسيفساء العذراء والإمبراطورين:
في إحدى جهات الكنيسة الجنوبية، فسيفساء يرجع تاريخها إلى زمن تولي الإمبراطور باسيليوس الثاني بين (976 و 1025)م، وهي تمثل السيدة العذراء جالسة على العرش وفي حضنها الطفل يسوع، والى يمينها الإمبراطور يوستينيانوس الأول يقدم لها مجسماً عن كنيسة آجيا صوفيا، والى يسارها الإمبراطور قسطنطين الأول ومعه مجسم عن المدينة المحاطة بالأسوار، هذه الفسيفساء أمر بتنفيذها الإمبراطور باسيليوس الثاني وذلك بسبب الإعجاب الذي يكنه لسلفه.
فسيفساء العذراء والإمبراطورين
فسيفساء العذراء والإمبراطور يوحنا الثاني وزوجته ايريني:
العذراء أيضاً هنا جالسة على العرش وابنها في حضنها، والى يمينها الإمبراطور يوحنا الثاني كومنينوس يقدم إليها كيساً من النقود الذهبية، في حين زوجته بين يديها لائحة بالهدايا لوالدة الإله.
فسيفساء العذراء والإمبراطور يوحنا الثاني وزوجته
كنيسة كبرى، هكذا أرادها الإمبراطور يوستينيانوس، لتبقى شاهداً على الإبداع البيزنطي، وعلى الإيمان الأرثوذكسي والذوق الرفيع.
كنيسة، مسجد، متحف، مراحل مرت بها آجيا صوفيا، لكنها ستظل معلقة بالسماء بسلسلة من ذهب.
وقائــع:
احتوت الكنيسة على كنوز لا تقدر قيمتها بثمن، سرق معظمها جنود الحملات الصليبية، ويروي مؤرخ من القرن الثالث عشر كيف أن الصليبيين نهبوا الكنيسة، وكسروا المذبح، ووزعوه فيما بينهم، ومن كنوز الكنيسة:
9 - أناجيل مذهبة.
5 - أواني لمزج الخمر بالماء
14- كأساً وطبقاً
6 - ملاعق ذهبية
7 - نجوم فضية
4 - شمعدانات فضية
16 - مروحة فضية
8 - صلبان تحتوي على ذخيرة من عود الصليب، وهي مزينة بالذهب والفضة واللآليء
أيقونات متعددة
عصي بطاركة مذهبة
أغطية كؤوس
رفات قديسين
ثياب كهنوتية
بنى الإمبراطور يوستينيانوس /32/ كنيسة، و/6/ مستشفيات، وقصوراً عديدة، إضافة إلى المباني الإدارية والموانئ.
تعرضت الكنيسة الكبرى منذ إنشائها في عام 537م، لهزات أرضية استدعت تدعيمها وترميمها على الدوام.
حسب إحصائيات الكتاب البيزنطيين فإن /27/ زلزالاً قوياً ضربت مدينة القسطنطينية بين القرنين السابع والخامس عشر، في حين أن الكنيسة اهتزت على الأقل /16/ مرة منذ بنائها عام 537م.
أهم الزلازل وقع في الأعوام: 557م، و 975م، 989م، فتضررت القبة ومعها القوس الغربي وتوالت الهزات في الأعوام: 1010م، 1032م، 1041م، 1063م، 1087م، 1159م، 1231م 1346م، و1354م.
شاهد الكنيسة منظر ثلاثي الأبعاد