الغنوسطية:
ظهرت في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي شيعة تسمى "غنوسطية"، وهي كلمة يونانية معناها "المعرفة"، لأن الذين قاموا بها يدَّعون المعرفة أكثر من غيرهم، قام بها سبعة من اليونان من تلاميذ المدارس الفلسفية يرأسهم باسيليدس، ذكرهم في تاريخه الكنسي اليوناني ملاتيوس مطران اثينا من رجال أواخر القرن الثامن عشر، فهؤلاء كانوا لا يزالون يضمرون العبادة الوثنية، وقد حسبوا المسيح إلهاً مثل تلك الآلهة التي كانوا يضمرون عبادتها، ولم يقيموا لمريم العذراء وزناً بشيء، وهذه الشيعة قاومتها الكنيسة في القرنين الثالث والرابع ولاشتها تقريباً، بعد أن كان قد اقتبس مذهبها قليل من السريان، واصل منشأها في أنطاكية ومصر، وهؤلاء السريان قد اضطهدوا أيضاً فانحدروا جنوباً إلى القبائل العربية وأشركوا به بعضها معهم.
النسطورية:
ثم قام نسطوريوس وكان يونانياً أيضاً، وأعلن مذهباً جديداً بعد أن صار بطريرك القسطنطينية عام 428م، بأن مريم العذراء لا يجوز أن تلقب بوالدة الإله، منقصاً من لاهوت المسيح ومعتبراً هذا اللقب غلطاً ومحطاً من شأن ذات الله تعالى، وقال يجب أن نلقب مريم العذراء بوالدة المسيح، وكان بشأن مريم العذراء متأثراً بالمذهب الغنوسطي فلم يقم لها وزناً أكثر من الاحترام الشخصي، فحرمت الكنيسة نسطوريوس من شركتها سنة 431م، وحاربت مذهبه الذي تلاشى، إلا من بعض السريان الذين لوحقوا من السلطة، فنزحوا إلى العربية، ودسوا مذهبهم في بعض قبائلها بالنسبة لتفاهم السريان والعرب لغوياً.
المريميون:
وكان من العرب والسريان الذين اخذوا اعتقاد الغنوسطيين فئة توسعت في مذهبها المسيحي هذا، واعتقدت بإلوهية مريم، مثل إلوهية المسيح، وقد ذكر هذه لفئة التي تألفت من أولئك العرب والسريان المتعربين الممتزجين معهم في بلاد العرب، العالم الانكليزي جورج سال من علماء القرن التاسع عشر، في كتابه "بحث في الإسلام"، نقله إلى العربية هاشم ابن العربي، وطبعه سنة 1891 ولم يذكر مكان طبعه، وقد ذكر عنهم في الصفحة 68 من النسخة العربية، ومما يقوله فيها:
"..وهذه المقالة بإلوهية مريم كان بعض أساقفة المجمع الأول النيقاوي يقولون بها أيضاً، وأنهم كانوا يزعمون أن مع الله الآب إلهين هما المسيح ومريم، ومن هذا كانوا يدعون بالمريميين".
وذكر أيضاً فئة تأليه مريم كتاب "تنوير الإفهام في مصادر الإسلام"، تأليف المستشرق الانكليزي وليم سنت كلايرتسدل الذي وضعه باللغة العربية الجيدة، ولكنه لم يذكر زمان ومكان طبعه، وإنما المرجح من مواضيعه انه معاصر لجورج يال.
وذكر هؤلاء المريميين القديس ابفانيوس اليوناني العالم أسقف قبرص المتوفي سنة 413م، في كتابه "تاريخ الهرطقات".
وذكرهم أيضاً المؤرخ البطريرك سعيد ابن البطريق بطريرك الإسكندرية القبطي المتوفي سنة 939م، في كتابه "نظم الجوهر".
وذكرهم الفقيه الكبير احمد ابن تيمية الملقب بتقي الدين الحراني الدمشقي، المتوفي في دمشق سنة 1327م، في كتابه "منتقى الأخبار".
وذكره الشيخ حسين بن محمد الديار بكري من أهل القرن الرابع عشر الميلادي في كتابه "الخميس أحوال أنفس نفيس" ويعني به محمداً، وجملة ما قاله: "..إني اطلعت على إنجيل من أناجيلهم فإذا به يبتدئ باسم الآب والأم والابن"، وبالديار بكري استشهد الشيخ احمد السحيمي الذي جاء بعده في كتابه "إتحاف المريد في شرح جوهرة التوحيد" الذي يجري في نفس البحث، وذكر الاثنين المؤرخ حبيب الزيات الدمشقي في كتابه "خزائن الكتب" طبع في مصر سنة 1903م، صفحة 44.
فهؤلاء كانت منهم فئة في مكة، وكانوا يعبدون الله بثالوث يفسرونه به تعالى وبالمسيح وبمريم، ولما كانت الكعبة بيت آلهة لجميع العرب، ولكل قبيلة فيه معبودها، وضع هؤلاء المريميون صورتي المسيح ومريم، وقد حكى الازرقي في أخبار مكة عن هاتين الصورتين، وذكرهما أصحاب السيرة النبوية كابن هاشم وعلي ابن برهان الدين الحلبي، وحكى الازرقي ان محمداً عندما كسر أصنام كعبة مكة أبقى على صورتي المسيح ومريم واحترمهما، ولكنهما تلفتا عندما ضرب الحجاج بن يوسف السقفي ملك العراق مكة والكعبة بالمنجنيق في حربه للخليفة عبد الله بن الزبير سنة 690م، ومن أولئك المريميين كان ورقة بن نوفل الاسدي احد وجهاء مكة، وإياهم عنى محمد (بالناس) بقوله في الآية 119 من سورة المائدة في القرآن: "يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله؟.." وبقوله في الآية 19 والآية 75 من نفس السورة أيضاً: "لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم".
المريميون في دمشق:
ان مذهب تأليه مريم قد ظهر في القرن الثاني الميلادي، مقابلة لمذهب الغنوسطية الذي لم يكن يقيم لها وزناً، ونشط في القرن الخامس مقابلة للمذهب النسطوري، ولكن لم تكن له تلك القوة التي تخشى، وكان معظمه في الجنوب حيثما تضعف يد السلطة وكان منه في دمشق قبل قسطنطين الكبير ككل المسيحيين، ولما نشطت المسيحية بعد الإمبراطور قسطنطين الكبير وصارت الكنائس تظهر وتشيد، بنى هؤلاء المريميون كغيرهم من المسيحيين في دمشق معبداً صغيراً لهم، بالنسبة إليهم وخصصوه لاسم إلهتهم مريم العذراء، وعُرف عند المحيط باسم "كنيسة مريم"، وأول كنيسة مسيحية صحيحة المعتقد بُنيت في دمشق هي كنيسة القديس حنانيا أول رسول للمسيحية في دمشق، وجُعلت كنيسة الأسقفية، ولما تملك في القسطنطينية الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير سنة 379م، حوّل معبد الزهرة الوثني في دمشق إلى كنيسة على اسم النبي يوحنا المعمدان، وجعلها كنيسة الأسقفية عوض كنيسة حنانيا، ومن ذلك الحين توسعت المسيحية في دمشق وتقوت، وبعد قليل قضت على المريميين فيها وبعثرتهم واستولت على كنيستهم، التي بقيت معروفة ومشهورة باسم (كنيسة مريم) وكبرتها حتى صارت من كنائس دمشق المحسوبة، وهذا أصل أساس كنيسة مريم في دمشق.
ويرجح وجود أقليات من هؤلاء المريميين كانوا في العراق من عرب بني لخم، وفي مصر من القبط، وفي غير دمشق من بلاد الشام، بدليل وجود معاهد دينية في هذه الأمكنة باسم مريم، ذكرها ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان".