تتميَّز الحمامات العربية بكونها ذات طراز معماري عريق، ومتقن، حيث توفر للمُستحم الانتقال التدريجي من الجو الحار في الداخل إلى الجو البارد في الخارج فيحافظ على سلامته وصحته، وهي تتألف من ثلاثة أقسام (البرّاني)، (الوسطاني)، (الجوّاني).
مصير الحمامات القديمة:
قال الأجداد: "نعم الدنيا ثلاث .. قصر ، وحديقة ،وحمام " فقد انتشرت الحمامات في حلب منذ أربعة وعشرين قرناً وازدادت حتى بلغت مئة وسبعين حماماً عاماً وواحداً وثلاثين حماماً خاصاً ،وتطوَّرت مدينة حلب اتساعاً ومعيشة وأفكاراً وأصبح في كل منزل حمام خاص.
رغم ذلك فقد كان يوجد في بداية القرن العشرين حوالي أربعين حماماً بني بعضها في العهد الأيوبي في القرن الثالث عشر والآخر جدّد وقسم ثانٍ بني في العهد العثماني وازدادت الحمامات مع ازدياد عدد السكان وتوزَّعت في أمكنة التجمُّعات السكنية أو في المراكز التي يرتادها العابرون على مفارق الطرق المهمة داخل وخارج أسوار المدينة القديمة ،وخاصة في الضاحية الشمالية أي حي الجديدة وما جاورها.
الحمام يوجد عادة مع بقية الخدمات الأخرى كالسوق والجامع والقسطل والقهوة ،ولكنه لا يبنى أمام أو جانب الجامع، والحمام عنصر تزامن مع سير الحياة أسبوعياً أو أكثر قليلاً، وحسب الفصول، والطبقة الاجتماعية والجنس.
ولارتياد الحمام حدث له قيمة في الحياة التقليدية فهو يتطلب تحضيراً خاصاً، وحتى تقاليد أيضاً ،وطرق النظافة في الحمام حدث له أهمية في حياة الرجل والمرأة على السواء ،والمرأة تغتنم فرصة للخروج من المنزل ،وتلتقي بالنساء الأخريات ،والأخبار تنتشر داخل الحمام وترتب أمور الزواج أو تجرى احتفالاته كل ذلك يتمُّ في الحمام.
في ذلك يقول أحد الباحثين: "في الحمام يظهر التباين الاجتماعي، اختبار الحمام، الخدمات، استقبال القائمين على الحمام ،والخدم، إبراز الألبسة والحلي ،وأحياناً استئجار الحمام من بابه ،والحمام ضرورة صحية ،ولم تعرف حلب المياه الجارية إلا بعد عام 1925 لهذا كان لابدَّ من ارتياد الحمام ،ومع ازدياد سكان حلب ونشوء أحياء جديدة تنشأ حمامات جديدة إذ لابدَّ من الذهاب إلى الحمام".
لكن رغم المياه الجارية ،ورغم ظهور حمامات المنازل على الطريقة الحديثة فقد بقي أربعون حماماً يعمل في حلب حتى عام 1970 ،ولم تتوقف سوى بضع حمامات هدمت لتفتح شوارع جديدة مكانها لتأمين وصول السيارة إلى المراكز الإدارية والتجارية المتعدّدة أو لتقوم مكانها بنايات سكنية أو تجارية حديثة.
بعد عام 1970 غاب اثنان وعشرون حماماً عن مسرح الحياة العامة التقليدية ولقد تنوَّعت الأسباب والزوال واحد، أو بتغيير أصحاب المهنة، والصنعة ماتت.
أجمل وأشهر الحمامات:
حمام النحاسين:
وكانت معروفة بحمام الست، وتقع أمام خان النحاسين مباشرة ،وكانت تابعة لوقف المدرسة الخسروية، وهو من الحمامات القديمة في حلب ،وتعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر ،ولازال يستعمل حتى الآن ،ويمتاز بقبَّته المزيَّنة بالفتحات الزجاجية للإنارة، وبوجود البرّاني والوسطاني والجوّاني.
حمام البياضة:
هذا الحمام من الفترة المملوكية بني من قبل جمال الدين أبو المحاسن بن الزيتي نفيس بن عبد الصمد أحد أعيان الخواجاتية عام 854 هـ وهو من الحمامات التي لا تزال تعمل بحلب ،وهناك أيضاً عدد من الحمامات الأخرى مثل حمام (الذهبي) وحمام (الصالحية) وحمامات (محمد باشا) وحمام (البساتنة) وغيرها.
حمام (يلبغا الناصري):
يعدُّ من أجمل حمامات حلب ،ويقع أمام البرج الجنوبي لقلعة حلب بعد الخندق أمام القصر العدلي حالياً ،وقد ذكره ـ ابن الشحنة ـ باسم الحمام الناصري ،ويقع قريب سوق الخيل ومن المرجَّح أن بناءه يعود إلى أوائل حكم المماليك في منتصف القرن الرابع عشر.
للحمام واجهة جميلة من الحجر الأصفر والأسود مشابهة بذلك طراز المدارس الأيوبية والمملوكية ،والمدخل مرتفع تعلوه الصنج الجميلة، وعلى الجانبين نوافذ عديدة ،أما (البرّاني) في الحمام فتعلوه قبة عالية رائعة ،وزخارف جدارية بديعة مع بركة للماء في الوسط ،ومشالح للثياب ،وتجاويف على سوية الأرضية للأحذية والقباقيب ،أما (الوسطاني) فيحتوي بعض الخلوات ،وتعلوه القبب ،والقمريات الجصية بأشكالها النجمية، وزخارفها المتداخلة ،وقد انتشرت (الأجران) في الخلوات ،وكانت تعلوها الحنكة وهي قطعة من الخشب بداخلها ثقب فيه ألياف حسب عددها وكثافتها تسمح بمرور الماء الساخن أو البارد من خلالها ،وقد تمَّ استبدالها بالحنفيات المعدنية.
وفي (الجوّاني) أيضاً يوجد فيه بيت النار ،وهو أكثر أقسام الحمام حرارة في وسطه قبة واسعة مثمَّنة الأضلاع قمريَّاتها موزَّعة بأشكال هندسية جميلة ،ويحيط بالجواني ثلاثة إيوانات وخلوتان وفيه بئر ماء ،وكان يسخن بالبخار من أسفل أرضيَّته.
أقسام الحمام:
يتألف القسم البرّاني الخارجي من فسحة واسعة تحيط بها المصاطب العريضة لها حواجز خشبية جميلة وفوق هذه المصاطب يخلع المستحمُّون (الزبائن) ثيابهم التي يضعونها في خزائن خاصة أو يعلقونها على الجدران، وفي بعض الأحيان تقوم فوق فسحة القسم البرّاني قبة عالية، كما يتألف القسم الوسطاني من فسحة أصغر من الفسحة الأولى تحيط بها الخلوات الصغيرة وفيها أحواض ذات صنابير تجلب الماء الساخن والماء البارد إليها، أما الجوّاني فهو يشبه القسم الوسطاني إلا أنه أشد حرارة لوجود بيت النار فيه.
معظم هذه الحمامات تهدَّمت على يد التتار عندما اجتاحوا حلب واستمرَّ كثير منها على حاله من التهديم إلى أن حدّد بعضها ومنها الحمامان الكبيران، وحمام (اشقتمر) والحمام (الناصري)، ويعدّد ابن خطيب الناصرية في كتابه (الدر المنتخب) الحمامات الموجودة في عصره وعددها (47) حماماً.
بينما تذكر كتب التاريخ أيضاً عن ابن شداد في (الأعلاق الخطيرة) عدداً من الحمامات في حلب، وظاهرها أن الناس كانوا ينتفعون منها وبلغت نحو سبعين حماماً، ويعدّد ثلاثين حماماً في دور المدينة، ويأتي على ذكر عدد من الحمامات في البساتين، وفي خارج باب أنطاكية ،وخارج باب الجنان ويقول: "إنها كانت لا تكفي أهل حلب" إلا أن معظم هذه الحمامات قد اندثر الآن.
رواج العمل في الحمام يتناقص يوماً بعد آخر، وما بقي من الحمامات هو في طور النزع فالخراب يدبُّ في أوصالها بشكل واضح إذ لم تعد الصيانة السنوية للحمام تتمُّ ونقص عدد العاملين فيها، ولم يعد ينظف في الحمام إلا الأقسام المستعملة.