الطريق الأحادي الواصل إلى ذلك المكان يجعلك تشعر بالرغبة الشديدة للتوقف قليلاً لتستظل تحت إحدى الشجيرات المترامية، وتفكر بما يمكن أن تشاهده في مكان أثري له أهميته الكبيرة ليس على المستوى المحلي بل على المستوى العالمي، لما اكتسب من شهرة كبيرة على مر الزمن.
إلى الشمال الغربي من مدينة حلب، وعلى بعد 60 كيلومتر فوق نتوء صخري تحده من الجنوب والشمال والشرق أودية تشكل خطوطاً دفاعية طبيعية تقع قلعة سمعان العاموي تلك الآبدة الأثرية بجمالها، وتتربع فوق هذا التل، وفور دخولك إلى القلعة، ستسيطر عليك دهشة عارمة لما ستشاهده من جمال أخاَّذ جمع بين عراقة وأصالة وإتقان.
الهندسة المعمارية للأعمدة لكل حجرة تتوضَّع فيها مع جمال الطبيعة الخلاب. الزائر إلى قلعة سمعان سيلاحظ النموذج المعماري المميز والفريد من نوعه الذي انطبع على الحجارة الموجودة حيث يبرز الفن السوري الممتزج بالفن البيزنطي مع بعض التأثيرات الكلاسيكية، سواء بأعمدتها الرشيقة التي تعلوها تيجان مزخرفة ببروزات جميلة يخيل للناظر أنها تتمايل مع اتجاه الريح، أم بالمثمن الجميل المزدان بأضلاع متناظرة ومنحنيات ترتكز على روائز بديعة، إلى جانب لون حجارتها الوردية. كما تبرز الأروقة والأبواب والنوافذ المشرعة للريح وجدرانها المتشامخة التي تنتصب لتتحدَّى عوامل الزمن وسيكون أمام الزائرين أن يسبحوا بخيالهم عندما يمرون من أمامها أثناء تنقلهم عبر قرون من الصمت إلى عهود كانت تضج فيها بالنشاط والفن والازدهار.
أروقة الماضي:
وفي وصف للقلعة نجد أنه في وسطها عمود سمعان الشهير ويحتوي على أربعة أقواس تنفتح على الأروقة الأساسية، وأربعة أقواس أصغر من الأولى منها حنية “وهو تاج يرتكز على العنق في الأعمدة الإغريقية”، وتنفتح بقوسين على الرواقين الثانويين في الفرعين المجاورين، وعلى الأغلب لم يكن وسط القلعة المثمن مسقوفاً لدى بنائه وفي حال وجود سقف فإنه كان عبارة عن قبة خشبية خفيفة حتى لا تشكل ثقلاً كبيراً على الجدران التي تحملها الأقواس. يُقسم وسط القلعة المثمن كل فرع من الفروع إلى ثلاثة أقسام على شكل أروقة بواسطة صفين من الأعمدة، فالرواق الأوسط يبدو أكثر عرضاً والجانبيان أضيق، ويبلغ قياس كل من الفروع الثلاثة الغربي والجنوبي والشمالي (24×25) أي مربعة الشكل تقريباً.بينما قياس الفرع الشرقي (22×24م) وينحرف قليلاً عن المحور مائلاً نحو الشمال لأنه يشكل وسط القلعة، وفيه توجد ثلاث حنايا في مؤخرة الأروقة الثلاث، وبجانب هذه الحنايا غرفتان مربعتان الأولى كانت مخصصة لملابس الكهنة تسمى بـ “الدياكونيكون”، والثانية مخصصة للهبات المقدمة وتسمى “بروتيسس”.
كنيسة سمعان:
وفي قراءة لتاريخ القلعة تشير المصادر التاريخية إلى الإمبراطور زينون، فبعد أن قضى على ثورة مغتصب العرش بازليك، وأضحت علاقات العمودي دانيال قوية مع الإمبراطور زينون أراد أن يشد الولايات الشرقية إلى المملكة ففكَّر ببناء كنيسة عظيمة على شرف قديس شرقي ذي شعبية في كل الإمبراطورية لذلك يمكن أن ننسب إلى الإمبراطور زينون بداية العمل في بناء كنيسة القديس سمعان العمودي في العام 476 م. أما بالنسبة إلى تاريخ انتهاء بناء الكنيسة، فتحدده المعطيات الأثرية إذ نجد أنه إلى الشمال الشرقي من مكان العمود، وعلى بعد حوالي 5 كم؛ قرية باصوفان، وفيها كنيسة مكرسة للقديس فوقاس وهي نسخة جزئية مصغرة من كنيسة سمعان، يزين حنيتها من الخارج صفان من الأعمدة مثل حنية كنيسة القديس سمعان، وكذلك طريقة الزخرفة هي نفسها. كما أنَّ الأعمدة وتيجانها في البهو الرئيسي لا تشبه مثيلاتها في كنيسة سمعان فحسب بل نفذت بنفس أدوات العمل مما يؤكد ليس فقط تماثل العناصر المعمارية في الكنيسة بل التنفيذ من قبل نفس العاملين. إنَّ كنيسة باصوفان تحوي كتابة سريانية تبين بدء بنائها في العام 491 م أي أنَّ بناء هذه الكنيسة تمَّ عند إنجاز كنيسة القديس سمعان، ويرى الباحثون أنه لا شك في أنَّ الأعمال كانت توجه من قبل إدارة الإمبراطور بالذات ليتم البناء الضخم خلال هذه الفترة القصيرة، وهي 15 عاماً.
حياة سمعان العمودي:
القلعة والكنيسة وما اكتسبتا من شهرة تعودان إلى القديس سمعان العمودي الذي ولد عام /392/م في قرية سيسان في سيليسيا، وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره اعتمد حياة الرهبنة ثم عاش في كهف صغير، وبسرعة انتشرت قصة حياة القديس سمعان المتقشف حيث إنَّ الناس أتوا لزيارته، وأخذ البركة منه، لكن هؤلاء الناس كانوا يزعجونه، وحبه لحياة النسك دفعه إلى بناء عمود ليعيش على قمته، ومن هنا اشتقَّ لقبه (العمودي).
أبرز المواقع الأثرية المجاورة:
(براد أو قصر براد):
وهي قرية صغيرة فيها معبد ومدفن ومعاصر للزيتون، و(برج حيدر) هي قرية صغيرة فيها بقايا كنيسة صغيرة تعود إلى القرن الرابع الميلادي، (دارة عزة) وهي قرية كانت مشهورة حتى الآن بالصناعات اليدوية، و(ست الروم) تتضمَّن كنيسة مجهولة الهوية، ومن المواقع أيضاً:
(القاطورة):
وهي قرية صغيرة فيها معابد رومانية ومجموعة من أعمدة المدافن والمقابر المنحوتة في الصخر، على بعضها توجد بعض الرموز والنقوش، (باصوفان) وآثارها تتضمَّن حصناً صغيراً وكنيسة على نمط البازليك.
كما توجد مواقع مثل (خراب شمس) وفيها آثار المقابر والفيلات من الفترة البيزنطية بالإضافة إلى كنائس من القرنين الخامس والسادس الميلاديين (تل ومعبد عين دارة ) يقع على بعد /40/ كم إلى الشمال الغربي من حلب على الضفة اليسرى لنهر عفرين وقد عثر في التل على معبد حثي لا مثيل له في منطقة الشرق العربي يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، كذلك عثر على نصب للآلهة عشتار.