أيتها الأرثوذكسية..تعصفُ بكِ أهوجُ العواصف..وتحاربكِ اشرسُ القوات المظلمة لاقتلاعكِ من العالم..وانتزاعكِ من قلوب الناس..ارادوكِ أملاً مفقوداً..ومتحفاً مهجوراً..وماضياً مأساوياً..وتاريخاً منسياً..لكن الله القدير الكلي الحكمة يسيطر على هذه الفوضى ويحميكِ منها وردة مفتحة تفوح بعطرها ارجاء المسكونة..ويحافظ عليكِ في قلوب البسطاء..وها انتِ كما أنتِ حيَّة قوية تغذين الاجيال وتفلحين كل بقعة جرداء..وتزرعين الأمل في نفوس الضعفاء..وتباركين الحاقدين والأعداء..وتوزعين قوة وحياة ونوراً..وتفتحين للناس ابواب الابدية..قوية عتيدة ايتها الارثوذكسية  
الصفحة الرئيسية > معلومات > تاريخية وجغرافية
حياة مريم العذراء على الأرض                                                                        مطران بيروت للروم الأرثوذكس ايليا كرم


تعليـم الكنيسـة المقدسـة عـن والـدة الإلـه
حبـل القديسـة حنـة بوالـدة الإلـه
ميـلاد والـدة الإلـه الفائقـة القداسـة
دخـول والـدة الإلـه إلـى الهيكـل
خطوبـة العـذراء الفائقـة القداسـة
البشـــارة
ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح
ختان ربنا يسوع المسيح
سجود المجوس
هرب العائلة المقدسة إلى مصر
مريم العذراء في حياة الرب يسوع
حياة والدة الإله الفائقة القداسة بعد صعود الرب يسوع المسيح إلى السماء
انتقــال والــدة الإلــه
طروبارية

المقدمـة:

القلب البشري كيفما تألم من الحزن فإن فعل رحمة والدة الإله الملكة السماوية وأيقوناتها العجائبية، هما فرح الحزانى أجمعين يصغيان الى صلاة المعذبين ويستجيبان دائماً إلى نحيب الحزانى الخاطئين، لأن النعمة الإلهية استقرت منذ القدم على أيقونات أم الإله إذ قد منحها إبنها قوة خاصة وعظيمة جداً تحقيقاً لقولها النبوي، ومساعدة للضعفاء والمعذبين وعزاءً للحزانى، فجميع اللاجئين إليها عن إيمان يلمسون منها الحماية والمعونة دائماً.

ليس من مكان في العالم المسيحي مهما كان بعيداً إلا وفيه ايقونة لوالدة الإله المكرمة، فمنذ أن عهد الرب يسوع المسيح بأمه إلى القديس الرسول يوحنا الحبيب ، ووالدة الإله أم المسيحيين تندفع وتسرع إلى معونة جميع المتعبين والمثقلين لتعزيتهم، لذلك أصبح كل إنسان مسيحي مؤمن يضع أيقونتها المقدسة في بيته بركة وشفيعة له عند إبنها الرب يسوع.

فبشفاعاتها أيها الرب يسوع المسيح ارحمنا وخلصنا . آميـــن

تعليـم الكنيسـة المقدسـة عـن والـدة الإلـه

"افرحي يا علواً يعسر الصعود إليه بالأفكار البشرية"

قبل أن يوجد العالم سبق اصطفاء العذراء مريم في مشورة الثالوث الأقدس خادمة لخلاص الجنس البشري.

إن العذراء الفائقة القداسة والنقاء، أضاءت للفداء فجراً لما سمع أبوانا آدم وحواء ذلك الحكم الإلهي الهائل الذي قضى به الديان العادل عليهما عقب مخالفتهما لوصية خالقهما. وقد أخذ وعد صلاحه المنعم يومض في هذا الحكم للخلائق الساقطة. ألا وهو أن: "نسل المرأة يرضُّ رأس الحي " ( تكوين 3: 15 )

إن هذا الوعد الذي هو أول الوعود الإلهية كلها، أخذ يُعلن في جميع حوادث الزمان المتوالية بتدقيق عظيم جداً على مقتضى الزمان السابق تعيينه.

وكان الرب يكرر وعده هذا ليهيء الناس لقبول مخلص العالم الموعود به، فلم يُمحَ من ذاكرة الناس، وعلى الرغم من تتالي العصور والشعوب وتبدل الشرائع والعادات فقد استمر الإيمان بالمخلص الآتي من العذراء الفائقة القداسة ثابتاً متيناً، وانقضت خمسة آلاف سنة في الانتظار وتمت أخيراً النبوءات كلها في الوقت المحدد الذي عيّنه القضاء الإلهي وتوارت ظلال العهد القديم وتألق في أفق المسكونة النجم الهادي لينقل البشرية الهالكة إلى مرفأ الخلاص.

إن حوادث العهد القديم تمثل ظل أشخاص العهد الجديد وحوادثه أو تستحضر سابق رسمهم، وموضوعها في الغالب هو مخلص العالم ربنا يسوع المسيح المولود من العذراء الفائقة القداسة.

1- فالأرض البكر الأولى:  التي لم تحرثها أتعاب البشر، ولم يسقها المطر، قد أنبتت للطبيعة النباتية كل متنوع بديع واستعملت لتكوين الإنسان الأول. فهي في رأي الآباء القديسين الممثل الأول للعذراء مريم التي ارتضى الله الكلمة أن يتجسد منها، إن العذراء التي هي الفردوس الحي أبدت في ذاتها ثمار الفضائل البهية، وأحرزت في ذاتها الرب شجرة الحياة المغروس فيها بالمشيئة الإلهية، إذ حملته في جوفها الرب وولدته، وبه أولت الناس الخلاص من الموت الأبدي ومنحتهم الحياة الخالدة. ( تكوين 2 : 5 - 7 )

وهذا ما أكّده الرب يسوع المسيح بقوله :

"من يأكل جسدي ويشرب دمي ، فله الحياة الأبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا 6 : 54)

إن حواء الخاطئة أنشأت الجنس البشري على الأرض في الآلام، فبسقوطها في الخطيئة أدخلت الموت إلى العالم وطُرد الإنسان من الفردوس، أما العذراء مريم فقد ولدت الإله الإنسان معيدة للناس الغبطة الخالدة والسعادة الدائمة.

2- البطريرك نوح:  بنى السفينة في مدة مئة سنة من خشب لا يبلى، ونجا في تلك السفينة هو وعائلته من الطوفان العالمي، وما تلك السفينة إلا سابق تمثيل جلي للعذراء مريم، التي ولد منها المسيح خلاصاً أبدياً لجميع المؤمنين به واللاجئين إلى حماية والدته الدائمة البتولية، وكما أن العالم الذي نشأ بعد الطوفان تناسل من نوح وبنيه كذلك ابتدأ المسيحيون أولاد العهد الجديد من المسيح المولود من العذراء، والحمامة التي أطلقها نوح من السفينة فحملت إليه غصن الزيتون إليه ترمز إلى العذراء مريم التي ولدت مخلص العالم من طوفان الخطيئة، وبميلاده بشرت بانتهاء غضب الله على الأرض.

3- البطريرك يعقوب: قد رأى رؤيا سرية أظهرت له فيها السلم الذي أسفله في الأرض ورأسه في السماء، لذا سمت الكنيسة المقدسة العذراء مريم سلماً روحية مولودة على الأرض وواصلة بالسماء لأن الإله نزل بها إلى الأرض كأنه بسلم، وفتح مدخل الملكوت السماوي لجميع المؤمنين به، واللاجئين إلى حماية والدته العذراء الكلية القداسة.

4- العوسجة: التي رآها للنبي موسى وهي تلتهب ولا تحترق ليست إلا رمزاً إلى العذراء مريم، فاللهيب والعوسجة انكشف جلياً في سر العذراء، لأن العوسجة التهبت ولم تحترق، وكذلك العذراء  ولدت النور وبقيت عذراء منزهة عن كل عيب ولم تلتهب بنار الزواج البشري، لذلك سمت الكنيسة العذراء بالعوسجة غير المحترقة، وكثيراً تصورها الكنيسة ولمعان النار محيط بها.

5- عمود السحاب: الذي ظلل بني إسرائيل نهاراً وأضاء لهم ليلاً في خروجهم من مصر بقيادة النبي موسى، هو الدليل الواضح على مريم العذراء التي استبانت سحابة منيرة حاملة الإله، وقائدة البشر إلى ارض الميعاد الحقيقية، إلى الملكوت السماوي، ومفيضة عليهم ينابيع الرحمة والحنان الإلهي.

6- البحر الأحمر: الذي أجاز الاسرائليين في قعره الجاف وأغرق فرعون وجنوده، إنما هو الرمز الصريح للعروس مريم التي لم تعرف زواجاً، والتي صارت بميلاد يسوع المسيح الطاهر بحر هلاك لفرعون الخيالي المتجبر، ومياه نجاة وسوراً لا يرام للمؤمنين الحاملين بلا تذمر صليبهم وراء ابنها الإلهي.

7- حال الاسرائيليين: العطاش في الصحراء، وضرب موسى الصخرة بالعصا، وتفجّر الماء منها، كل ذلك يرمز الى العذراء التي ظهرت بولادة ربنا يسوع المسيح منها ينبوع النعمة الالهية المروي المتعطشين الى الحياة الأبدية.

8- الأرض الكنعانية: التي وعد الرب بها الاسرائيليين وكانت تفيض لبناً وعسلاً، إنما هي رمز للعذراء المنبتة لنا خبز الحياة لأنها هي الأرض الحقيقية الموعود بها التي يجري منها اللبن والعسل.

9- المدن المنفردة: التي كانت للاسرائيليين ويمكن للقتلة غير المتعمدين القتل ان يظفروا بمكان امين فيها تقيهم من أي خطر عليهم إنما ترمز إلى السيدة العذراء التي هي مدينة النجاة للنفوس المؤمنة، والميناء الأمين والملجأ المقدس لهم.

10- تغذية الله للعبرانيين: بالمن من السماء، والوعاء الذهبي المملوء به في تابوت العهد، هو رمز للعذراء مريم لأن المسيح الحياة الآتي الى العالم ليخلص الخطأة ويشبع نفوس المؤمنين به بخبز الحياة الأبدية، قد وسع في بطن مريم الدائمة البتولية.

11- قبة موسى وهيكل سليمان: قد امتلأا من مجد الرب لما تقدسا، وهذا يرمز الى العذراء الكلية القداسة، التي هي هيكل للمخلص واقدس كنز لمجد الله، وارحب مكان لبهاء الاله غير الموسوع في مكان.

12- الموضع الذي كان فيه تابوت العهد: كان يسمى قدس الأقداس، وما كان يدخله إلا رئيس الكهنة وحده مرة في السنة ليرش بالدم المضحى به، وهذا يشير الى والدة الاله التي هي متسع الله الكلمة المتجسد، ووضع لوحي الشريعة في تابوت العهد المصفح بالذهب من الخارج والداخل، إنما يدل على ان الرب المشترع هو نفسه قد ظهر في تابوت قدسية العذراء الطاهرة الذي ذهبه الروح القدس.

13- عصا هارون الجافة: قد أفرعت وأورقت وأزهرت أزهاراً وحملت لوزاً، ووضعت في التابوت ذكرى للامم المستقبلة، وما هي إلا تمثيل للعذراء القديسة، التي نشأت من ابوين عاقرين وهي في الحقيقة العصا السرية والزهر الذي لا يذبل والفرع المزهر للاغصان غير الذاوية.

14- البخور: المحروق أمام الرب، يعني رفع الصلاة الى عرش العلي، لأن المبخرة الذهبية التي كانت وراء حجاب القبة تمثل رسم العذراء الفائقة القداسة، لتعلمنا الالتجاء إلى والدة الإله نصيرتنا الحارة والمتشفعة اليقظة من اجل تسكين أحزاننا.

حبـل القديسـة حنـة بوالـدة الإلـه

لما شاء ربنا وإلهنا أن يهيء لذاته كنيسة حية ومسكناً، ارتضى أن يصطفي لذلك الصديقين يواكيم وحنة فوجب أن تولد منهما بالجسد أمه الفائقة النقاء والقداسة. فأرسل إليهما ملاكه ليبشر حنة العاقر بأنها ستلد العذراء مريم، فحبلت بها حنة وولدتها حسب وعد الله، وكان حبلها بها من اقترانها بالتزاوج كسائر الناس، أما ربنا وإلهنا يسوع المسيح فهو الوحيد الذي ولد من العذراء مريم بلا رجل وبلا زواج بل بطريقة سرية لا توصف. فكان إلهاً تاماً وإنساناً تاماً لأنه قبل عند تجسده كل ما هو ضروري لكونه الأزلي على نحو ما فعل عند إبداعه الطبيعة البشرية ذاتها.

أما قول بعضهم بأن والدة الإله ولدت بعد سبعة أشهر من حبل أمها القديسة حنة بها بلا رجل فهذا غير صحيح أبداً لأنها ولدت إبنتها بعد تسعة أشهر من حبل أمها القديسة حنة بها نتيجة الاقتران بالتزاوج الطبيعي البشري.

وقد رتبت الكنيسة المقدسة عيد الحبل بوالدة الإله في اليوم التاسع من شهر كانون الأول لأن المسافة بين اليوم الثامن من شهر أيلول يوم ميلادها الشريف تكون بمقدار تسعة أشهر تماماً.

ميـلاد والـدة الإلـه الفائقـة القداسـة

"ميلادك يا والدة الإله بشر المسكونة كلها بالفرح"

إن والدة الإله الفائفة القداسة قد ولدت من أبوين هرمين عاقرين في مدينة الناصرة، وبحسب العادة اليهودية سُميت الطفلة في اليوم الخامس عشر من ميلادها (مريم) الذي عينه ملاك الله والذي يعني (سيدة أو رجاء)، وفي الحقيقة إن مريم صارت أم الخالق وسيدة الخلائق كلها ورجاءها.

لم ترد في الإنجيل المقدس أية رواية عن ميلاد العذراء مريم، وإنما حُفظت عنه تواترات مسطرة في مؤلفات القديس أبيفانيوس اسقف قبرص ومؤلفات المغبوط ايرونيموس وغيرهما.

ووفقاً لنبوات الأنبياء فإنه ينبغي أن يأتي مخلص العالم الموعود به من قبيلة الملك داؤد، ولما تقلص امتياز قبيلة داؤود وباتت على مستوى واحد مع عامة الشعب اليهودي، والانحطاط العام في الأدب والدين ابتدأ اليهود ينتظرون بفارغ الصبر ظهور المسيح راجين أن يروه ملكاً فاتحاً عظيماً محرراً إياهم من نير الاستعمار الروماني الأجنبي، ومسلطاً إياهم على غيرهم من الأمم الأخرى.

وكان يعيش في الناصرة زوجان هرمان هما يواكيم وحنة من سبط داؤد، وكان لحنة أختان هما مريم وصوفيا، الأولى تزوجت وانجبت صالومي وأما الثانية فهي اليصابات التي تزوجت زكريا وانجبت من النبي يوحنا المعمدان.

ولنقاء سيرة يواكيم وحنة استحقا أن يكونا أبوي والدة الإله التي ولدت لنا المسيح المخلص، وبعد مضي خمسين سنة على زواجهما ولم يلدا أولاداً اخذ الحزن منهما مأخذه واحتقرا من قبل شعبهما واهينا جداً لأنه كانت العادة عند اليهود أن كل زوجين لا يرزقا بنسل فهما حتما" خاطئين أمام الله، وكان ليواكيم الحق في أن يطلق زوجته حنة حسب الشرع اليهودي، إلا أنه احبها وحافظ عليها واحترمها لأجل وداعتها الفائقة، واستمرا يعيشان في الصلاة والصوم وكل منهما يشدد الآخر ويعزيه بكل محبة وحنان.

وكان من عادتهما أن يزورا أورشليم في الأعياد  العظيمة، ففي عيد تجديد الهيكل جاء يواكيم كعادته ليقدم قرابينه فرفضها رئيس الكهنة وقال له

"أنتَ غير مستحق أن تقبل منك قرابين لأنك غير مثمر ، فلا ريب انك لم تنل بركة من الله بسبب خطاياك الخفية".

وقال له رجل آخر:

"لماذا تريد أن تقدم قرابينك قبلي، ألا تعلم انك غير مستح لأنك لم تقم نسلا" في إسرائيل ؟؟.."

فخجل يواكيم كثيراً ولم يرجع إلى بيته بل هام على وجهه إلى البرية إلى رعي قطيعه يبكي ويشكي إلى الله عار العقم والعار الذي لحق به وبزوجته، وبقي على هذه الحالة أربعين يوما" وليلة بدموع سخية يطلب من الله رفع هذا العار عنه والرحمة بحاله.

وفي الحال عرفت حنة بإهانة رجلها وبهجره لها، فسالت دموعها غزيرة ومضت إلى البستان وبينما هي تبكي تحت شجرة الغار وتصلي إلى الرب الإله كي يرفع عنها وعن زوجها هذا العار القاسي عليهما فهما لم يسلكا إلا طريق الرب وتطبيق وصاياه، وبينما هي كذلك رفعت عينيها إلى الأعلى فشاهدت بين الأغصان عشاً فيه أفراخ عارية من العصافير فسالت دموعها بغزارة وقال بصوت صادر عن قلب حزين متألم:

"إني لا أستطيع ان أتشبه لا بطيور السماء ولا بوحوش الأرض لأنها تقدم لك يا رب ثمرتها وتتعزى بأولادها أما أنا فمحرومة من هذه السعادة وأصبحت بلا ثمرة كأرض مجدبة، فويل لي منك يا رب، انظر إليَّ واستمع صلاتي يا من وهبت سارة ابناً في شيخوختها المتناهية، وفتحت رحم حنة ام صموئيل، أرجوك يا رب افتح رحمي واجعلني مثمرة حتى نقدمه لك خادماً ذكراً كان أم أنثى ممجدين رحمتك العظيمة". 

فظهر لها ملاك الرب وقال له:

"يا حنة إن صلاتك قد سمعت، وتنهداتك قد اخترقت السماء، ودموعك بلغت عرش الرب، فأنت ستحملين وتلدين فتاةً فائقة البركات، ولأجلها نبارك قبائل الأرض كلها، وبها يمنح الله الخلاص للعالم كله، فلتسمى مريم ".

فسجدت حنة للرب وهتفت وهي ممتلئة فرحاً عظيماً:

"إني إن رزقت فتاة نذرتها لخدمة الرب ليلا" ونهاراً ممجدة اسمه القدوس.

فطلب منها الملاك أن تذهب إلى أورشليم بعد أن اخبرها بأنها ستلتقي بزوجها أمام الباب الذهبي، فأسرعت إلى أورشليم لتشكر الرب على رحمته.

وفي الوقت ذاته ظهر ملاك الرب ليواكيم الصديق وهو واقف في البرية يصلي وقال له:

"يا يواكيم، إن الله قد سمع صلاتك، فان امرأتك حنة ستحمل وتلد لك فتاة" تفيض للعالم السرور، وهاك علامة فانك ستجد زوجتك أمام باب الهيكل التي بشرتها أنا بهذا النبأ".

فلما التقيا معاً قدما قربان الحمد لله وعادا إلى بيتهما مسرورين موطدي الإيمان بما وعدهما به الرب، فحملت حنة في اليوم التاسع من كانون الأول وولدت في الثامن من أيلول مريم الكلية القداسة والبركات التي كانت بدء خلاصنا وشفيعتنا الدائمة عند الله، وقدم يواكيم قرابين عظيمة ونال بركة رئيس الكهنة وتهاني ابناء شعبه.

عنيا الأبوان القديسان عناية فائقة في تربية ابنتهما مريم وربياها على التقوى والأيمان العظيمين، وحرساها كحدقة العين لأنها ستكون معدة لخدمة العمل الإلهي العظيم لخلاص العالم، وبعد ثلاث سنوات ادخلاها إلى الهيكل حسب نذرهما الذي وعدا به الرب، وتوفي أبوها بعد أعوام قليلة عن عمر يناهز الثمانين عاما فهجرت أمها الناصرة إلى أورشليم وسكنت قرب ابنتها وكانت تصلي في الهيكل بلا انقطاع، وتوفيت بعد سنتين عن عمر/ 79 / سنة.

ولدت العذراء الكلية القداسة في بلدة "الناصرة" غير المشهورة من بيت داؤود الذي أمسى وضيعاً بعد أن كان شهيراً رفيع المستوى ففقد عظمته، فلم يحط بسريرها بهاء ولا مجد عالمي، فجميع هذه الامتيازات الأرضية أظلمت لدى مشاهدتها نور المجد غير المنظور منذ الدهر لام مسماة حسب شهادة الإنجيل "المنعم عليها والمباركة منذ تجسد المخلص منها". أن الحكمة الأزلية قد حجبت هذا السر عن العقل البشري المحدود والذي لا يمكن قبوله إلا بالإيمان.

سمت "مريم" في اليوم الخامس عشر من ميلادها حسب الشريعة اليهودية، والذي يعني بالعبرية "سيدة" أو "رجاء". والحقيقة أن مريم قد صارت أم الخالق وسيدة الخلائق كلها ورجاءها.

لم ترد في الإنجيل قصة ميلاد مريم العذراء وانما حفظت عنه مقتطفات مسطرة في مؤلفات القديس ابيفانيوس اسقف قبرص، ومؤلفات المغبوط ايرونيموس وغيرهما من المؤلفين الكنسيين.

ميلادك يا والدة الإله العذراء قد بشر المسكونة كلها بالفرح لأن شمس الحق المسيح إلهنا اشرق منك فنقض اللعنة ومنح البركة وابطل الموت ووهبنا الحياة الأبدية.

دخـول والـدة الإلـه إلـى الهيكـل

كانت الطفلة مريم تنمو وتتقوى بنعمة الله وعناية أبويها محيطة بها، وجاء في التقليد انه عند اكتمالها السنة، دعا يواكيم الكهنة والكتبة والشيوخ والأصدقاء إلى وليمة حافلة وطلب من الكهنة أن يباركوا الطفلة، فلفظ الكهنة على راس مريم هذه البركة:

"يا إله آبائنا، بارك هذه الطفلة وهبها اسماً مجيداً خالداً في جميع الأجناس".

فلما بلغ عمر مريم سنتين ادهش نمو عقلها وقلبها جميع المحيطين بها لأنه حباها الله بقامة سابقة لسنها، فلم تكن مماثلة لأترابها، وقد عمد يواكيم إلى إيفاء نذره بتكريس ابنته للهيكل، إلا أن حنة المنفعلة بعاطفة الأمومة سألته أن يؤجل ذلك إلى سنة أخري، وشرعا في تهيأتما لتكون هبة لله بكل جدارة.

"اسمعي يا بنت وانظري، أصغي أذنك وانسي بيت قومك وبيت أبيك فيشتهي الملك حسنك" ( مزمور 44 : 1)

هكذا هتف الملك في مزاميره، وها قد وافى الزمان لاتمام السر الذي سبق الله فعينه، لأن الفتاة القديسة دخلت إلى قدس الأقداس، وهو الابتداء اللازم لعودة الجنس البشري إلى الله بعد ارتداده عن قدس الأقداس بكثرة خطاياه.

وقد حفظت في التقاليد الشريفة تفاصيل دخول العذراء إلى الهيكل فجاء فيها ما يلي:

في حفل تكريس العذراء لدخولها منذورة إلى الهيكل، اجتمع في الناصرة الكثير من انسباء يواكيم وحنة، وكثير من العذارى الصغيرات من جيل العذراء ليصاحبنها إلى الهيكل، وكنَّ يرنمن مزامير داؤود الملك والشموع في أيديهن مشتعلة وانطلق الجميع إلى أورشليم التي تبعد مسافة ثلاثة أيام عن الناصرة، وبعد دخول المدينة المقدسة وسبعة أيام التطهير بالصوم والصلاة حسب العادة المتبعة آنذاك لمقدمي النذور والقرابين، وتقدم الحفل باتجاه الهيكل والعذراء مريم محمولة على الأيدي، فخرج الكهنة أنفسهم واستقبلوا الطفلة بالأناشيد الإلهية التي ستكون أمُ الكاهن الأعظم القادم من السماء، وعند باب الهيكل استقبل رئيس الكهنة زخريا الموكب الحافل.

الجناح المؤدي إلى الهيكل كان مؤلفاً من خمس عشرة درجة بعدد مزامير الدرج التي كان الكهنة اللاويون يرنمونها مزمورا" مزمورا" على كل درجة وهم داخلون إلى الهيكل، فما أن قاما يواكيم وحنة بإيقاف الطفلة الإلهية على أولى الدرجات حتى صعدت الدرجات كلها لوحدها مسرعة للدخول إلى الهيكل، فدهش الجميع جداً واستقبلها رئيس الكهنة زخريا على الدرجة العليا والكهنة يحيطون به، وبقدرة إلهية ادخلوها إلى ما وراء الحجابين الأول والثاني ومنهما إلى قدس الأقداس حيث لم يكن مسموحاً بالدخول إليه من النساء والكهنة حتى رئيس الكهنة بالذات إلا مرة واحدة في السنة بعد صوم طويل وصلاة يوم التطهير ومعه الدم المضحى به عن نفسه وخطايا الشعب.

لقد أبيح لها هذا المحظور بالهام من الهي سري، فأدخلت العذراء إلى قدس الأقداس مثل تابوت الله القديم الذي كان سابق تمثيل لأم المسيح فادي العالم.

لقد كان رئيس الكهنة مأخوذاً بالروح الإلهي ففهم أن هذه الطفلة إنما هي إناء للنعمة الإلهية وأنها اكثر آهلية منه لأن تمتثل أمام وجه الله.

لما أدخل رئيس الكهنة العذراء إلى قدس الأقداس عيَّن لها موضعاً خاصاً للصلاة، وأما غيرها من العذارى مثيلاتها فكنَّ يُمنعن بشدة من الاقتراب إلى قدس الأقداس، وكان يعيَّن لهن موضع بين المذبح والهيكل حيث قُتل زخريا.

وكانت العذراء الفائقة القداسة توزع الطعام الذي كان يُعطى لها على الفقراء في الهيكل لأنها كانت تتغذى بالخبز السماوي، حيث كانت تتناول من الملاك طعاماً خاصاً حلو المذاق.

لقد عاشت منذ طفولتها مع غيرها من أترابها باحتشام فائق، وكانت منذ الصباح حتى الساعة الثالثة نهاراً تنتصب للصلاة، ومن الساعة الثالثة حتى التاسعة كانت تتمرن على الأشغال اليدوية أو تتفرغ للقراءة ، ومن الساعة التاسعة كانت تعود للصلاة حتى يأتيها الملاك بالطعام المعين لها، حياتها كانت مليئة بالصلاة والورع والقداسة لذلك دعتها الكنيسة بكلية القداسة والطهارة.

عندما بلغت العذراء السنة التاسعة من عمرها ذاقت أول حزن لها على الأرض وذلك بفقدانها والديها الهرمين، فقد توفي يواكيم عن ثمانين سنة ولحقت به بعد فترة قصيرة من الزمن زوجته حنة أيضاً.

الصديقان يواكيم وحنة تسميهما الكنيسة المقدسة "جدَّي الإله" وتلتمس كل يوم في اختتام الخدم الإلهية والطقوس الدينية الرحمة السماوية والخلاص للمصلين من الرب بشفاعات والدة الإله والقديسين الصديقين يواكيم وحنة.

لما فقدت العذراء والديها كابدت الشعور بمرارة اليتم وعرفت أن لا شيء يربطها بعد بالأرض لذلك استسلمت بكامل قلبها لله وحده وعللت نفسها برغبة واحدة وهي البقاء أمة للرب خاضعة لمشيئته المقدسة حتى نهاية حياتها.

خطوبـة العـذراء الفائقـة القداسـة

"افرحي يا عروسا" لا عروس لها"

لما بلغت مريم العذراء السنة الرابعة عشرة من عمرها أعلن لها رئيس الكهنة بأنها ملزومة بحسب العادة التي كان لها قوة الشريعة أن تغادر الهيكل وترحل إلى بيتها كغيرها من العذارى الموجودات في الهيكل معها، فأجابتهم بأن والديها قد نذراها لله وهي بعد في المهد وأنها نذرت نفسها لما بلغت أن تصون له بتوليتها إلى الأبد، بأنها لا يمكنها أن تتحد بانسان مائت وهي نذيرة لله الخالد  وأنها لا تريد أن تنقض نذرها أبداً.

تعجب رئيس الكهنة من هذا العزم الوطيد واضطربوا الكهنة كلهم لعدم قدرتهم على إبطال الشريعة وحرمة النذر ولعجزهم عن إجبار العذراء على نقض نذرها الذي هو الأول من نوعه في العالم كله أجمع، حينئذ اجتمعوا في الهيكل وصلوا بحرارة ليبين الله لهم مشيئته وطريقة التصرف في مثل هذه الحالة وتحيروا في كيفية تدبير حياتها بدون رجل وأن تبقى نذيرة لله خلافاً للشريعة المفروضة على الفتيات كافة بالزواج كي يأتي من أحدهن مسيا المنتظر، فمن جهة لم يستطيعوا إجبار عذراء على الزواج وهي منذورة لله فذلك يعد خطيئة عظيمة، ومن جهة أخري كانوا يعدون بقاء امرأة في قدس الأقداس خطيئة أعظم من الأولى.

فارتدى رئيس الكهنة زخريا والد النبي السابق يوحنا المعمدان ثيابه الكهنوتية ودخل قدس الأقداس وراح يصلي عله يجد منفذاً وحلاً مناسباً لمشكلته  فظهر له ملاك الرب وقال له:

"يا زخريا .. اجمع كل من فقد امرأته من قبيلة يهوذا من نسل بيت داود، وليحضر كل واحد منهم عصاه معه ويوضعوا على المذبح، فالذي  تزهر عصاه  فإلى ذلك سلّم العذراء ليصون بتوليتها".

فاختار اثني عشر رجلاً تقياً طاعنين في السن ولا نساء لهم ووضع عصيهم على المذبح وصلى لله على مسمع الجميع وقال:

"أيها الرب أظهر الرجل الذي تريده مشيئتك كي يخطب العذراء".

وتُركت العصي الليل كله على المذبح، وفي الصباح دخل رئيس الكهنة والكهنة والاثنا عشر رجلاً إلى الهيكل فوجدوا أن عصا يوسف وهو أحد أنسباء العذراء قد أزهرت وأن حمامة قد هدّت ووقفت عليها، حينئذ علموا أن مشيئة الرب إنما هي في انتقاء يوسف ليكون صائناً للعذراء وحافظا" بتوليته للأبد، وكان يوسف نسيب مريم العذراء ذا سيرة بارة شريفة ينتظر بفارغ الصبر مجيء مسيا المنتظر، وقد بلغ يوسف الشيخوخة إذ كان عمره آنذاك فوق الثمانين عاماً.

وعاش زمناً طويلاً وهو ارمل بعد وفاة امرأته صالومة التي رزق منها ستة أولاد، أربعة ذكور وهم: يعقوب ويوسي وشمعون ويهوذا، وانثتان وهما: مريم وصالومة، ويسميهما بعض المؤرخين:استير وثامار

إن أولاد يوسف الخطيب يدعون اخوة الرب يسوع المسيح وأختيه ويعقوب ويوحنا ابني زبدى من صالومة يدعون ابني أخيه أو ابني أخته.

ولما طلب منه رئيس الكهنة أن يقبل العذراء مريم للمحافظة عليها أجابه يوسف بأنه هرم وعنده أولاد بالغون يخاف عليه منهم، وان مريم هي فتاة جميلة صغيرة فان قبلها فسيكون بقبوله لها سخرية لأولاد بني إسرائيل  فهدده رئيس الكهنة بخطيئة رفض أمر الله أن خالف طلبه.

حينئذ خضع يوسف لمشيئة الله وخُطبت له العذراء مريم أي عهد إليه بها لصيانة بتوليتها وخدمة السر المكتوم عن البشر منذ الأزل، وليس بغية الزواج منها كما أن الله قد كشف لها بان لا تخاف من الذهاب مع نسيبها وخطيبها يوسف الصديق لأنه سيكون الحافظ الأمين لها تحت اسم رجلها وزوجها أمام الناس فقط، ومضى يوسف مع خطيبته إلى مدينة الناصرة وسكنا هناك.

إن يوسف كما ذكرنا هو من نسل داؤد إلا انه لم يحظى على الغنى كأسلافه إنما عاش حياته وربى أسرته بكد يديه وتعبه المستمر من مهنة النجارة التي لم يحسد عليها، كما أن مريم تلك الطفلة الصغيرة قد قبلت العيش مع أسرة أفرادها بالغون تقوم في خدمتهم ورعايتها كأم حنونة عطوفة معوضة لهم حنان الأم التي فقدوها منذ زمن طويل، وقد آمنت مريم بان الله يعطيها بيوسف الأب والحامي والحافظ لحياتها البتولية.

عاشت مريم في بيت خطيبها يوسف الصديق كما عاشت تماماً في قدس الأقداس، قضت حياتها في التأملات والصلوات ومطالعة الكتب المقدسة والأشغال اليدوية، فكان لها ذلك البيت هيكلاً لم تغادره أبداً، أمعنت في عيشة الوحدة والصوم والسكون، فلم تكن تخاطب أو تتحدث إلا مع ابنتي خطيبها عما هو ضروري فقط.

البشـــارة

"افرحي أيتها المنعم عليها الرب معك"

عاشا الخطيبان الأشهر الأولى لحياتهما في سلم وببركة الله ونعمه  في بيتهما الحقير المتواضع ومضى بهما الزمن غارقين في أعمالهما المعيشية المقرونة بالصلاة والصوم فتقدست أفعالهما كلها، وكان يوسف يعمل نجاراً بسيطاً دكانه لا تتجاوز غير قطعة من حجر مساحتها تقارب العشرة أقدام مربعة وقد أقيمت مكانها كنيسة صغيرة ومازالت تلك الحجرة "الدكان" محفوظة فيها حتى الآن، وكان يعلو الحجرة حجاب مجدول من أغصان النخيل يقي الوافدين إليها من حر الشمس ويصنع لهم الأكواخ في الوادي المجاور لها.

ومريم العذراء لم تغير من حياتها السابقة في قدس الأقداس أي شيء من نمط حياتها المقدسة، فقد عاشت بين الناس لله وحده وكان لها بيت يوسف هيكلاً ثانياً للصلاة، وكانت تعمل بحبك خيوط الصوف والكتان وتوشية الحلل الكهنوتية بالخيوط المذهبة، فمهرت في عملها مهارة غريبة وذاع صيتها.

ولما بلغ تمام الزمان، واقتربت أيام خلاص البشر بواسطة التجسد الإلهي، وجب أن توجد عذراء نقية طاهرة قديسة تستحق أن يتجسد منها الإله غير المتجسد لتخدم سر الخلاص، فوجدت هذه العذراء في الهيكل لأنه وجب أن تكون هيكلاً حياً للإله المتجسد، وجدت في قدس الأقداس لأنه وجب أن يولد منها الكلمة الأقدس من كل القديسين، إن الرب نظر من علو ملكه إلى تواضع أمته فاصطفاها أماً للكلمة الأزلي، فهي السابق اصطفاؤها من جميع أجناس البشر.

حانت أخيراً سنة الرب المستحبة، فبلغ اليوم الذي انتظره الجنس البشري اكثر من خمسة آلاف سنة، وقد عرفت العذراء مريم من تلاوة الكتب الإلهية والنبوية زمان مجيء ماسيا الموعود به واقتراب أسابيع دانيال من نهايتها فقد قرأت مراراً عديدة نبوءة اشعياء النبي:

"ها ان العذراء تحبل وتلد ابنا" يسمونه عمانوئيل" (أشعياء 7 : 14)

وبتصوراتها افترضت أن هذه العذراء المباركة موجودة، ولم تكن تعلم بأنها هي تلك العذراء المصطفاة من الله فالتهبت نفسها محبة لمشاهدة ليس ماسيا المنتظر فقط بل وللعذراء المباركة التي ستكون أماً له أيضاً، وكانت  تكـرر الصلوات وهي باكية ليؤهلها الله أن تشاهد أم ماسيا الموعود به وتخدمها بنفسها وتكون لها أمة وخادمة كأصغر خادماتها. جاء في نبوءة أشعياء:

"ها ان العذراء تحبل وتلد ابنا" وتسميه يسوع"

أما رئيس الملائكة فقد بشر العذراء قائلا"  وتسمينه "يسوع" وليس هناك من خلاف في كلا الأمرين لأن ترجمة عمانوئيل من العبرانية إلى العربية "الله معنا" وهو يعبر عن اتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في الشخص الواحد أي في الإله والإنسان، واسم "يسوع" يعني "المخلص" ويدل على عمل الرب يسوع الذي بذل نفسه للآلام وللموت على خشبة الصليب ليخلص الجنس البشري من الموت الأبدي.

سكان الجليل في ذلك الزمان كانوا كلهم تقريباً من الأمم، ولذلك سميت في الكتاب المقدس "جليل الأمم". وكان اليهود يذكرون الجليل في أحاديثهم باحتقار شديد فيقولون:

ألعل المسيح من الجليل يأتي !!؟؟..

ألعلك أنت أيضا" من الجليل؟.. فتش وانظر فإنه لا يقوم نبي من الجليل...

وكانت الناصرة أيضاً اصغر وأحقر المدن في الجليل ، وكان هناك مثلاً شائعاً يقال للامتهان من قيمة وقدر الناصرة كقول نثنائيل للقديس فيليبس: هل يمكن أن يخرج من الجليل شيء صالح ؟؟..

ولكن الرب لم يرتض أن يختار والدته من الطبقة العليا من الشعب اليهودي ولا من المدينة العظيمة أورشليم، بل اختارها من الناصرة الصغيرة الحقيرة ليدل على أنه لم يأت ليدعو صديقين إلى التوبة بل الخاطئين، ولينشئ له من الأمم غير المؤمنين كنيسة أمينة، وبذلك أظهر جليا" أيضا" انه يعطف ويهتم بالمتواضعين والمنبوذين والمقهورين لا بالمتكبرين والأعيان والعظماء.

وهكذا لما شاء كلمة الله أن ينزل من السماوات إلى الخاطئين نظر من علو مجده إلى حيث يكثر الخاطئين، فرأى أهالي أورشليم يعدون أنفسهم صديقين وأبراراً، وأهالي الجليل مزدرون في كل مكان ويحسبون اخطأ من الجميع فاغفل اليهودية المتداعية بالقداسة ، وأورشليم المتبجحة بالعظمة والمجد ونزل إلى الجليل تلك المعدودة في نظر اليهود بالخاطئة الأثيمة، نزل في الناصرة الحقيرة منتقياً أدنى مكان في العالم القديم ومتضعاً إلى صورة عبد وخاطئ، نعم الناصرة كانت صغيرة وحقيرة في نظرهم ولكنها في نظر الرب كانت عظيمة لذلك حلت عليها النعمة الإلهية. في هذه المدينة الصغيرة الحقيرة كانت العذراء مقيمة وهي التي صار جوفها ارحب من السماوات.

إلى هذه المدينة أرسل الله رئيس الملائكة، وإليها نزل الروح القدس ليظلل الأحشاء البتولية، وفيها تجسد الله الكلمة فحيث يكون التواضع فهناك يسطع مجد الله، إن المدن الشهيرة الفخورة ليست بأهل للمسيح، أما المتواضعة فهي المستحبة عنده، ففي الناصرة المزدراة حُبل بالمسيح، أما في أورشليم العظيمة فأبسل للموت، إن الرب يسكن بين المتواضعين، أما المتكبرون فيطردونه عنهم.

فقال الله لرئيس الملائكة:

"اذهب إلى مدينة الناصرة في الجليل التي تسكن فيها الفتاة مريم المخطوبة للرجل التقي يوسف".

لتتم النبوءة   "إنه يُدعى ناصرياً" (قضاة 13 : 5)

إن سلامك يجب أن يحمل إليها الفرح والعزاء الذي فقدته حواء الأولى لا الحزن والاضطراب، فما أعظم أن تشارك الطبيعة البشرية الطبيعة الإلهية وتتحد معها في شخص واحد، وما أعجب أن يُحمل الله الخالق في جوف امرأة مخلوقة وهو الذي لا تسعه السماوات.

أيمكن أن يكون ما هو أدهش من رؤية الله في صورة بشرية وهو في الوقت نفسه غير منقطع عن أن يكون الله ؟؟..

ومن رؤية الطبيعة البشرية متحدة مع خالقها إلى حالة يظهر الله فيها إنساناً كاملاً ؟؟..

قال لها رئيس الملائكة :

"افرحي يا مباركة الرب معك، إن الرب الكائن قبلك هو الآن موجود معك، وفي وقت قريب سيصدر منك، إنه كان قبل الأزل أما الآن فسيظهر في زمان".

يا لها من محبة للبشر لا حد لها، ويا لها من رحمة لا تُدرك حيث ينقلب الحكم المزن باللعنة غفراناً مفرحاً وفردوساً لجميع الجنس البشري المؤمن بالمخلص.

فلما سمعت العذراء الفائقة القداسة هذا السلام الملائكي اضطربت من الكلمات وفكرت في نفسها قائلة: "ما عسى أن يكون هذا السلام ؟؟.."

إنها اضطربت ولكنها لم تخف لأن ظهور الملاك لها لم يكن عندها حادثاً جديداً وغير اعتيادي، لأن الملائكة كانوا يظهرون لها قبلاً أيام إقامتها في قدس الأقداس حيث كانت تتناول طعامها كل يوم من أيدي الملائكة حسب قول القديس جرمانوس.

إنها اضطربت ودهشت لأن رئيس الملائكة جاءها محاطاً بمجد سماوي عظيم جداً لم يجئها قبلاً بمثل هذا المجد.

الرب كان يعلن مراراً عديدة مشيئته لمختاري العهد القديم بواسطة ملائكته، إلا أن السلام "افرحي" لم يسمع في الطهورات القديمة، فصمتت العذراء مريم متحيرة وخافت التجربة من الحية الشريرة، فبادرها رئيس الملائكة بقوله:

"لا تخافي يا مريم، ولا ترتابي أيتها العذراء التي تنبأ عنها اشعياء النبي، فأنت هي تلك العذراء التي ظفرت بالنعمة لحبل بلا زرع بعمانوئيل وتلده بما يفوق الوصف وكما يعلم هو وحده فقط ، أنت ظفرت بالنعمة من الله بفضائلك التي لا تحصى ولا سيما بثلاث منها اعني بتواضعك العميق لأن الله يمنح نعمته للمتواضعين حيث قال: انظر إلى الوديع المتواضع وبطهارتك العذرية لأن الله الأطهر بطبيعته يشاء ان يولد من العذراء الفائقة الطهارة، وأخيراً بمحبتك الملتهبة لله الذي قال:

إني أحب الذين يحبونني، لذلك ستلدين ابناً أيتها الأم العذراء ولكن ابناً إلهياً، ابن العلي، إلهاً من إله مولوداً قبل كل الدهور من الآب بلا أم ومولوداً منك الآن بعد انتهاء الدهور. 

بلا أب، فاسمه اسم عجيب لا يوصف، انك تسمينه يسوع الذي يعني المخلص لأنه سيخلص العالم كله ويكون عظيماً وابن العلي يدعى ويملك بمجد عظيم لا يماثله مجد جده داؤود ولا مجد جميع ملوك الأرض الذين كانوا قبلا" من بيت يعقوب ولا تكون مملكة وقتية بل أبدية لا انتهاء لها .

المرأة التي حُدد لنسلها منذ ابتداء العالم ان "يرض رأس الحية" أي إبليس قد لاقت المبشر بعظمة الطهارة العذرية ثم أمعنت النظر في كل كلمة من كلماته وقالت له: "كيف يكون لي هذا ولست اعرف رجلاًً ؟؟..

إني وإن كان لي رجل بموجب نظام الخطبة فلا رجل لي بسبب نذر البتولية، فكشف لها الملاك بأن حبلها لا يتم حسب الطبيعة البشرية ونظمها بل بأسمى من هذه الطبيعة لأنه حيث يشاء الله يغلب نظام الطبيعة لأنه سيتم بفعل الروح القدس لأنه قال لها: "سيحل عليك روح القدس وقوة العلي تظللك" فمنه تقبلين في حشاك وهو يتمم فيك الحمل ويصّيرك أماً بما لا يدركه العقل البشري المحدود. أفلا يقدر الذي استطاع ان يخلف آدم الحي من التراب الميت أن يخرج من العذراء طفلاً حياً بلا زرع رجل ؟؟..

الله يطهرك أيتها العذراء مقدساً ومنيراً إياك بالمجد الإلهي، وستكونين أم الله حقيقة لأنك تلدين إلهاً تاماً وإنساناً تاماً وتبقين أثناء الولادة عذراء خالدة كما كنتِ وبعد الولادة عذراء نقية طاهرة من كل دنس.

ولكي يثبت لها قوة الله في مشيئته أخبرها رئيس الملائكة عن حمل نسبتها أليصابات الطاعنة بالسن حيث قدرة الله تسير على كل شيء فغير المستطاع عند الناس هو مستطاع عند الله، لذلك ستحمل العذراء في حشاها وتبقى عذراء.

عندئذ أزعنت لملاك الرب ولمشيئة الله الخالق وقالت له :

"ها أنا ذا أمة للرب فليكن لي حسب قولك".

فتم بها الحمل السري في حشاها بلا دنس أي حبور التأمل الإلهي وهذه المحبة الإلهية حُبل بابن الله، "والكلمة صار جسداً وسكن بيننا". ( يوحنا 1 : 14)  .

بعد سفر خمسة أيام وصلت العذراء إلى مدينة ايوت (حبرون) اللاوية حيث كانت أليصابات أم النبي السابق يوحنا المعمدان، فتلاقيا وفاهت اليصابات بألفاظ إلهية دون ان تدرك ما كانت تقول لأن الروح القدس قد ألهمها على لفظها لتكتب في الكتب ولتثبت للعالم اجمع جيلاً بعد جيل بأن العذراء مريم هي أم لله دون شك، فقالت لها:

"مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك".

فهذه الترنيمة هي ترنيمة الحمد الأولى في العهد الجديد وهي:

تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي، 
لأنه نظر إلى تواضع أمته، فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال،
لأن القدير صنع بي عظائم وقدوس اسمه، ورحمته إلى جيل فجيل للذين يتقونه،
صنع عزاً بساعده وشتت المتكبرين بذهن قلوبهم،
أنزل المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، أملأ الجياع من الخيرات والأغنياء أرسلهم فارغين،
عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمته ، كما قال لآبائنا إبراهيم ولنسله إلى الأبد.
 
( لوقا 1 : 47 – 55 )

بهذه الكلمات غير الاعتيادية والخطيرة جداً بالنسبة للناموس الموسوي قد أجابت مريم العذراء على سلام أليصابات النبوي ناسية العظمة كلها إلى الرب الواحد العظيم القدير.

فقد عرفت كنه المعرفة أنها ليست إلا أداةً لظهور مجده الإلهي، واعترفت بان العلي نظر إلى تواضعها واصطفاها أماً للإله الابن، وبالتواضع والصلاة انتظرت ما وعدها الله به وكانت عظمة الملكة للسماء والأرض ملازمة لها مع سمو أم الرب الفائق الوصف.

آباء الكنيسة أطلقوا على العذراء كريم بـ "والدة الإله" وكل من يخاف ذلك فهو هرطوقي وليس بمسيحي، وقد وضعت الكنيسة ترنيمة للفائقة القداسة تكرمها بها وتبجلها كملكة للسماء والأرض:

ليوم رأس خلاصنا وظهور السر الذي منذ الدهور، لأن ابن الله   يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنعمة يبشر، ونحن معه نهتف لوالدة الإله: افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك". 

ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح

لما طرد الله أبوينا الأولين من الفردوس لمخالفتهما وصيته الإلهية وعدهما بإرسال فادي البشرية ليعيدهما إلى الحياة الفردوسية ثانية .

وقبل ميلاد ربنا يسوع المسيح كان انتظار المخلص عامّاً، فاليهود على أساس النبوات العديدة عن قد انتظروا مجيئه والأمم ببؤسهم من الكفر ومن جميع الشرور انتظروا المنقذ أيضا" بفارغ الصبر، وأعظم نبؤات العهد القديم هي نبوءة اشعياء النبي القائلة:

"ها أن العذراء تحمل في البطن ابنا" ويدعى اسمه عمانوئيل" الذي تفسيره (الله معنا) ( أشعياء 7 : 14 ) .

وقد فسر الآباء القديسون أثناسيوس الإسكندري و باسيليوس الكبير ويوحنا الدمشقي، أن يوسف قد خطب العذراء مريم كزوج لها بالهام من الروح القدس كي لا يعلم الشيطان بميلاد الرب يسوع من العذراء فيهيّج هيرودس ويثير حسد اليهود حسب نبوءة اشعياء السابقة الذكر لأن هؤلاء الأعداء اخذوا يراقبون جميع العذارى ليعرفوا مَن منهن ستحمل بدون صلة رجل وتلد وهي عذراء.  

ولما ظهرت العذراء حبلى من الروح القدس وشاهدها خطيبها البار يوسف الصديق ولم يكن يستوعب عملية التجسد الإلهي من العذراء مريم وظن بأنها قد سقطت في خطيئة الزنى سراً ففكر في تركها سراً، وحسب شريعة موسى كانت المرأة الزانية يُحكم عليها بالرجم بالحجارة، ولقساوة هذه الشريعة أراد هذا الشيخ ابن الثمانين سنة وبقوة وفعل المحبة التي يكنها لها في قلبه، صمم على أن يتركها في مكان خال من البشر تتحمل مصيرها بنفسها لعل الله يلهمها إلى طريق الصلاح ويرسل لها من ينقذها من الضياع فبذلك يكون قد حمى نفسه من هول الفضيحة أمام أبناء جنسه وأمام كهنة الهيكل، وبات هذا الشيخ البار في تفكير وحيرة وخوف وخشية من أمر مريم.

ولكن الله العادل أصغى إلى تأملات صفيه وصلواته وحباه بالكشف عن سر خلاص الجنس البشري العظيم، وقبل أن يقوم يوسف بأي تصرف بشري أرسل له ملاكه الخاص في الحلم وقال له:

"يا يوسف ابن داود..لا تخشى أن تأخذ امرأتك مريم لأن المولود فيها هو من الروح  القدس". ( متى 20:1 ) .

فاستيقظ يوسف من النوم ولم يبقَ في قلبه أي ارتياب من جهتها.

"ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر".

هذه العبارة التي وردت في الإنجيل المقدس تعني أن العذراء سُلمت إلى يوسف كهيكل للرب لا للزواج، بل لصيانة بتوليتها تحت مظهر الزواج  ولكن يوسف لم يدرك عظمة البتول لدى الرب إلا عندما شاهد ولادة يسوع ذلك الطفل الإلهي منها، وكيف أن ملوك المشرق والمغرب قد حضروا إلى بيت لحم لتقديم واجب السجود والخضوع والطاعة وقدموا له الهدايا الثمينة لأنه ملك الملوك، وبالتالي فإن العذراء قد أضحت بذلك أم ملك الملوك، عندئذ عرف يوسف الصديق مكانة مريم العظيمة لدى الرب الإله خالق وملك السماء والأرض الذي منحها شرف حملها به.

ولا تعني هذه العبارة أيضاً والتي يفسرها بعض المحتقرين لمريم العذراء على أن مريم لم يُنجب يوسف الصديق منها أولاداً إلا بعد ولادة يسوع، أي كانت ولادة يسوع هي من الروح القدس، وأما بقية أخوته المذكورين في الإنجيل كانوا من ثمرة الزواج الطبيعي لها من يوسف، علماً أن جميع أخوة يسوع هؤلاء هم أكبر منه سناً لأنهم أولاد يوسف من امرأته المتوفاة، حيث أنه كان أرملاً وله ستة أولاد من زوجته السابقة، فكيف تم حسابهم على أن أخوته من يوسف هم أخوته من العذراء ؟؟..وكيف بقيت مريم تحمل صفة "عذراء" إذا كانت قد أنجبت أولاداً آخرين ؟؟..لأن صفة العذرية تطلق فقط على الفتاة التي لم تعرف رجلاً، وهذه هي الأعجوبة التي تفوق كل العقول البشرية بأن الرب يسوع قد حافظ على بتولية والدته أثناء حملها به، وأثناء ولادتها له، وبعد ولادتها له، علماً أن جميع المسيحيين قاطبة أينما كانوا ومهما كانت لغتهم فإنهم يطلقون على مريم صفة "العذراء" ويقولون "مريم العذراء" وهذه الصفة هي أكبر رد ودحض لادعاءات المسيئين لمريم أم الرب الإله يسوع المسيح، فهي أم الله خالق الكون والسماء والمتجسد منها ليفدي البشرية بدمه المقدس الكريم.

وكيف يدعون بإيمانهم بأن يسوع هو ربهم وإلههم ، وهم في الوقت نفسه يحتقرون والدته ولا يقيمون لها أي وزن ولا يحملون لها أي احترام وتقدير ؟؟..

فمن المستحيل أن تقبل العذراء مريم أن يعرفها يوسف المعرفة الزوجية بعد أن سمعت من ملاك الرب بأنها ستلد ابناً وتسميه يسوع وهو ابن الله العلي ومن روحه المقدس، ومن المستحيل أيضاً أن يحاول يوسف ذلك البار الصديق والشيخ الوقور الذي اختاره الرب بنفسه ليكون خطيبا" لوالدته بأن يتقرب من العذراء كزوجة له، بعد أن أعلمه الملاك بأنها حبلى من الروح القدس أي روح الله والذي سيكون مخلص العالم.

فأي ادعاء مناف للأخلاق والإيمان والعقيدة هذا الادعاء الذي يدعونه بعض هؤلاء المارقين الذين يدعون بالمسيحية والمسيحية منهم براء ؟؟..حتى أن إخواننا المسلمين أنفسهم يطلقون على مريم صفة "مريم العذراء" ويؤمنون ببقاء عذريتها، حيث أن القرآن الكريم عندهم يخبرهم بولادتها العجيبة ليسوع، وذلك بأنها أنجبته من جنبها (خاصرتها) كي تبقى عذراء نقية، وأن الله قد اصطفاها واختارها من جميع نساء العالم.

فهل هناك أعظم من هذا التقدير الإلهي للعذراء مريم، حتى تنبري زمرة من الحاقدين المهووسين لتشويه سمعة مريم وتحقيرها ؟؟..

فمَن منهم يحتقر أمه ويُرذلها ؟؟..

ومَن منهم يدعي على أمه بعدم حاجته لها بعد ولادتها له، وبأن عملها قد انتهى ومكانتها المحترمة كأم قد زالت بعد أن قامت بواجبها الولادي نحوه ؟؟..

ومَن منهم يقبل أن يصف والدته بقشرة البيضة (كما يصفون به العذراء) التي ترمى خارجاً بعد ظهور الفرخ منها ؟؟..

فإذا كانوا هم بشراً، ووالدتهم أم لبشر لا يقبلون لها هذه الصفة، فكيف يقبلون ذلك لمريم العذراء التي هي أم ربهم وإلههم ومخلصهم ؟؟..

أليسوا هم من الجاحدين لأمومتها ليسوع الذي فداهم على خشبة الصليب بسفك دمه المقدس الطاهر، وخلصهم من الخطيئة الجدية لينالوا الحياة الأبدية ؟؟..

ألا يخشون من مواجهة ربهم الذي يحتقرون والدته ويسيئون إلى سمعتها الكلية القداسة ؟؟..

ومن التاريخ الكنسي نعلم أن أحد أقرباء يوسف قد وشى به لكهنة الهيكل على أنه تعدى على عذرية العذراء وحملت منه، إلا أن الكهنة لم يصدقوا ذلك لعلمهم بقصور يوسف لكبر سنه وشيخوخته، ولما ألحّ الواشي عليهم طلبوا مقابلتهما سوية، فشاهدوا الحمل باد وواضح عليها، عندئذ قاموا بالتحقيق معهما ولكنهم لم يثبتوا عليهما شيئاً، وأعلما الكهنة بأن ذلك بأمر الرب ومن الروح القدس، إلا أن الكهنة أرادوا التأكد من ذلك فأشربانهما "ماء القسم" الذي أمر به موسى لإظهار إثم الشخص، وبعد أن تناولا منه لم يظهر عليهما أي شيء، فقرر الكهنة بأنهما بارين لأن الرب لم يظهر لهما أي خطيئة.

وبقيت مريم في بيت يوسف عائشة عنده بلا افتراق حتى نهاية حياته، وكانت أيامها تنقضي في هدوء وسلام، وتحيط بها اهتمامات الصديق الذي أدرك من كلام رئيس الملائكة واجباته نحو أم ربه، فكان يخدمها بكل ورع واحترام.  

وفي تلك الأيام صدر أمر من اغوسطوس قيصر بان يكتتب جميع المسكونة، فانطلق الجميع كل واحد إلى مدينته وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داؤد التي تسمى بيت لحم لأنه كان من بيت داود ومن عشيرته ليكتتب هو ومريم خطيبته وهي حبلى.

فسافر يوسف ومريم في أحوال قاسية وصعبة، ودنى وقت الولادة ولم يكن لهما من مكان يأويان إليه غير مغارة في قلب الجبل، كان الرعاة يضعون فيها مواشيهم، ففي هذه المغارة الفارغة نزل الغريبان القديسان وكانا وحدهما في هدوء تام وسكون عميق بعيدين عن أباطيل المجتمع البشري وضوضائه، وماثلين في حضرة خالقهما لأن حجاب السر غطى مهد ابن الله فتمت نبوءة اشعياء القائلة:

"هوذا يسكن في مغارة عالية من صخر قوي فملجأه صخور لا ترام".

هنالك في هذا الصخر المنيع ولدت العذراء مريم الفائقة القداسة وفي نصف الليل بلا وجع، ولدت الابن الأزلي المولود من الآب قبل كل الدهور، وكان ينبغي لها أن تلد بلا ألم لأنها حملت بلا دنس.

قمطته العذراء بيديها الطاهرتين، ووضعته في المذود وكانت هي الأولى التي سجدت له، وغذته من حليبها وقضى على ساعديها طفلاً وأصبح شاباً وهو لا ينفصل عنها أبداً، حتى الثلاثين من عمره يوم اظهر نفسه للعالم ليأخذ على ذاته عقوبة خطيئة العالم ويمنح الفداء للبشرية على الصليب.

كما سجد يوسف بارتعاش أمام الطفل الإلهي وأمام أمه الكلية القداسة، وفي فرح الاندهاش شاهد الأعجوبة الفائقة الطبيعة وعرف مكانة العذراء وابنها الإلهي، أما قبل ذلك لم يعرفها أم الله لان السر الإلهي الذي كان يهيأ فيها كان مكتوما" عنه، ولكن ههنا فقط أدرك تماما" أنها هي التي قيل عنها في اشعياء النبي القائل:

"ها إن العذراء تحبل وتلد ابنا وتسميه عمانوئيل".

إن الله أظهر للعالم أعجوبة عظيمة جديدة عند ولادة ملك البشرية ومخلصها، لأن المغارة كانت عوض القصر وقبضة التبن عوض السرير إن الذي لا يترك طيور السماء بلا عناية لم يهيئ بسر تدبيره الحكيم شيئاً خصوصياً على الأرض لابنه الوحيد، إن ابن الله الكائن في السماوات يرقد في مذود، إن الأرض المغطاة بالخطايا والمعاصي لم يكن فيها موضع لسيد العالم وخالقه لما قبل على نفسه صورة بشرية ليخلص الإنسان، ففي مدينة الناصرة الحقيرة تم الحمل بالمسيح، أما في أورشليم المجيدة فصلب، وفي بيت لحم الصغير ولد، أما في أورشليم العظيمة فدفع إلى الموت، فعجيبة هي أعمالك يا رب.

وفي لحظة ميلاد المسيح انفتحت السماوات وأضاء مجد الرب الأرض المغطاة بظلمة كثيفة، ونزلت مراتب الملائكة من السماء ورنموا بابتهاج لحلول السلم على الأرض وعاد انعطاف الله على الناس.

وفي هذا الوقت ماذا عملت الأرض المضاءة بمجد الله ؟؟..

لقد كانت غارقة في نوم عميق، لأن اليهود كانوا راقدين على الشريعة في انتظار مسيا المنتظر بأبهة العظمة الأرضية، والأمم كانوا منغمسين عند أرجل أوثانهم.

كانوا الرعاة على بعد نصف ساعة ساهرين يرعون قطعانهم عندما ظهر لهم فجأة نور عظيم وملاك الرب ظهر لهم مبشراً بولادة المخلص فقال لهم: "لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله، فقد ولد لكم الآن في مدينة داؤد مخلص هو المسيح الرب، وهذه علامة لكم إنكم تجدون طفلاً مقمطاً موضوعاً في مذود". (لوقا 14:2)

وما أنهى الملاك السماوي بشارته حتى ظهر فجأة جند سماويين يمجدون الله قائلين:

"المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة"

الرب لم يكشف عن سره لحكماء العالم وعظمائه، ولا للأقوياء والأغنياء، وإنما كشفه للمعوزين جداً ولأدنى العاملين لمؤونة الحياة، نعم انه كتم سره عن اكبر الحكماء والفقهاء وكشفه للأطفال، فيا لها من غبطة فائقة، غبطة الفقر المخولة للاتضاع والخضوع بلا تذمر والرافضة للتكبر والثقة بالنفس، إن الله نفسه جاء إلى الفقراء وافاض عليهم سيول المحبة والرحمة.

اتجه الرعاة إلى بيت لحم وشاهدوا الطفل الإلهي مقمطاً ومضجعاً في المذود ومريم ويوسف يحيطانه، فسجدوا له مؤمنين بأنه هو المسيح الرب مسيّا المنتظر.

إن ما نزع إليه الأجداد بكل قواهم وتقدم الأنبياء فأخبروا به، ورغب الصديقون في مشاهدته إنما هو مولد الرب يسوع، الله ظهر بالجسد وسكن بين الناس.

ختان ربنا يسوع المسيح

مريم العذراء والطفل يسوع ويوسف الخطيب قضوا أربعين يوماً في المغارة، وبد ثمانية أيام تمت ختانة الرب بموجب شريعة موسى وسمي يسوع الذي يعني مخلص وفادي العالم كما أمر الله بواسطة ملاكه، وكان لكل يهودي الحق بأن يتمم هذه السنة ولا سيما لرئيس العائلة، إن شريعة الختان ابتدأت في شخص إبراهيم وتثبتت على جبل سيناء، فالله نفسه هدد موسى بالموت لعدم ختانة ابنه.

هذا السُنّة في العهد القديم هي علامة الدخول في عهد الله مع ذرية إبراهيم وجُعلت تمثيلاً لسر المعمودية المقدسة فكما كان الختان العلامة الفارقة لشعب الله المختار والضرورية لجميع الداخلين في جماعة إسرائيل كذلك هي المعمودية المقدسة، فهي ضرورية لكل راغب في اعتناق الدين المسيحي، وكلا الختان والمعمودية يعني قطع الأهواء والتوبة لأجل الحياة الجديدة في عبادة الله الحي الأزلي.

إن ابن الله مخلص الجنس البشري لم تكن له ضرورة إلى الختان  ومع ذلك فقد قبله بموجب شريعة موسى ليعطي أتباعه مثال الخضوع للشرائع الكنائسية، فخالق العالم وسيده إنما أخذ على نفسه صورة عبد ليخلص خليقته من عبودية الشر والهلاك.

سجود المجوس

مجد الطفل الإلهي لم يخفَ في الظلمة ولا في المغارة ولا في المذود فبمعرفة المسيح المخلص والاعتراف به تمت المعجزة، لأن الخليقة كلها قدمت للرب هدية، فالملائكة تسبيحاً، والسماوات نجماً، والرعاة أعجوبة  والمجوس هدايا والأرض مغارة، والصحراء مذوداً، والناس الأم العذراء والأمم باكورة المسيحية في شخص مجوسهم، وهكذا شمل النور الإلهي نور مجد المولود مخلص العالم السماء والأرض.

وقبل ولادة المسيح تنبأ بلعام بمدة /1400/ سنة عن ظهور النجم السماوي، وعندما ظهر أدرك علماء الفلك الشرقيون متفقين مع نهاية أسابيع دانيال أنه يدل على ولادة ملك إلهي، فانطلق أشهر هؤلاء الحكماء وعلماء الفلك إلى أورشليم ليجدوا ملك العالم ويسجدوا له، وهؤلاء المجوس كانوا من ثلاثة قبائل وهم:

ميلخيور
وهو شيخ من ذرية سام،
وكسبار
وهو شاب أمرد يافع من ذرية حام،
وبلطصر
وهو فتى أسمر اللون من ذرية يافث.

وعلماء الفلك في ذلك الزمان كانوا يُسمون مجوساً عند الفرس وغيرهم من الأمم الشرقية.

وبعد أن التقوا بهيرودس السفاح وغادروا أورشليم إلى بيت لحم ودخلوا المغارة ولم يدهشوا لفقر القديسة، بل ولجوا بورع وخشوع بحضرة الله نفسه وأحنوا ركبهم وسجدوا له، وقدموا له أثمن الهدايا،

فقد قدم الملك الكلداني ميليخور لباناً عطرة كمَن يقدم البخور لله،   
وقدم بلطصر الفارسي ذهباً كما إلى ملك الدهور،
وقدم كسبار الحبشي مرّاً كما إلى الله الإنسان الذي افتدى بموته على الصليب خطايا العالم كله.

إن مثال المجوس ممثلي العلم في القديم اثبت أن المعرفة الحقيقية العميقة إنما هي هبة الله الهادية إلى معرفة الله الحقيقي وقد نالوا نعمة المعمودية على يد القديس الرسول توما الذي بشر بالإنجيل في بلاد فارس.

هرب العائلة المقدسة إلى مصر

عندما اصدر هيرودس الملك قراره الطاغي بقتل جميع أطفال بيت لحم، ظهر ملاك الرب ليسوف في الحلم وطلب منه الهرب بالطفل وأمه إلى مصر، وقد جاء في التقليد الشريف أن العائلة المقدسة تعرضت لعملية سلب من قبل لصوص الطرق وبينما هي تمر من الأراضي العربية، فتقدم زعيمهم ورقّ لهم قلبه فعفى عنهم، فقالت له العذراء:

"إن هذا الطفل سيكافئك مكافأة عظيمة لأنك حفظته سالماً".

فكان كلامها عبارة عن نبوة له لأن ذلك اللص هو الذي صلب فيما بعد عن يمين الرب يسوع وقال له وهو معلق على الصليب:

"اليوم ستكون معي في الفردوس"، وكان اسمه "تيطوس"، أما اللص الشرير فكان اسمه "دوماغ".

وعندما وصلا إلى مشارف مصر جلسا تحت شجرة من الجميز وتظللا بها، وما زالت هذه الشجرة إلى يومنا هذا ومن أملاك رجل إنكليزي يوزع أوراقها على الناس مجانا" طلبا" للشفاء والتبرك، وقد يبس بعض أغصانها وما زال البعض الآخر قائما" حتى الآن.

وفي المكان الذي داس عليه الطفل الإلهي ظهر نبع ماء يستقي منه الجميع وما زال قائماً حتى الآن.

بوصول الطفل الآلي إلى مصر سقطت الأصنام فيها كلها كما تنبأ اشعياء النبي فقال:

"هوذا الرب يركب على سحابة خفيفة ويأتي إلى مصر فتتزلزل أوثان مصر عند حضوره" ( أشعياء 1:19 ).

وعندما مات هيرودس عادت العائلة المقدسة إلى فلسطين بأمر الرب وقد تنبأ عن ذلك هوشع النبي وقال:

"من مصر دعوت ابني" (هوشع 1:11).

فذهبا إلى الناصرة وسكنا هناك للتتم النبوءة القائلة :

"ويدعى ناصريا"

مريم العذراء في حياة الرب يسوع

لم يذكر الإنجيل المقدس إلا الشيء اليسير عن وجود مريم العذراء في حياة الرب يسوع التبشيرية، فقد ذكرت عند زيارتها مع يوسف الخطيب إلى هيكل سليمان وكان الرب في عمر الحادية عشر، وكان يناقش علماء الشريعة في الهيكل.

والأخرى في أعجوبة عرس قانا الجليل، وأخرى عندما حضرت إلى إحدى المنزل مع أخوته من يوسف وطلبته من بين الجمع الذي حضر لسماع تعاليمه وأخرى خلال مسيرته الخلاصية مسيرة الآلام إلى الجلجلة وعند الصليب،  وعندما كفنته النسوة واصطحبنه إلى القبر وأما الأخيرة عند القبر أثناء قيامته من بين الأموات.

وهكذا فقد اقتصر الإنجيل عن ذكر والدة الإله في حياة الرب يسوع التبشيرية، لأن هذه المسيرة الخلاصية تخصه وحده من دون أحد آخر.

ولكن التقليد الشريف قد تحدث عن حياة مريم الفائقة القداسة وعن دورها الهام في حياة الرسل بعد صعود الرب يسوع إلى السماوات، وكيف كانت لهم السند الهام لهم في نشر وإرساء رسالتهم السماوية التي أسندها لهم الرب يسوع عندما قال لهم :

"اذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم ، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس".

هذه المهمة التي ألقاها على عاتقهم فقد تسلموها بكل أمانة وعملوا بها بكل إخلاص حباً بمعلمهم الإلهي الذي فداهم وفدى العالم اجمع بسفك دمه المقدس على خشبة الصليب وأعاد لهم الحياة الأبدية الخالدة بعد أن فقدها الجنس البشري بعصيانه لأوامر الرب الخالق.

حياة والدة الإله الفائقة القداسة بعد صعود الرب يسوع المسيح إلى السماء

بعد صعود الرب يسوع إلى السماء رجع التلاميذ مع مريم أمه والنساء الأخر القديسات من جبل الزيتون إلى أورشليم إلى علية صهيون التي تم فيها العشاء السري، ولبثوا فيها مواظبين على الصلاة والمؤمنون بالمسيح كانوا يأتون إليهم كل يوم ويشاركونه في الصلاة، وفي هذه العلية ظهرت كنيسة المسيح الأولى وانطلقت منها إلى كل أنحاء المعمورة.

وعلى مقربة من العلية كان بيت يوحنا الحبيب اللاهوتي الذي أقامت فيه مريم بمشورة الرب، والتي كانت السحاب المنير الذي ارشد بخطواته الأولى تلك الكنيسة الطفلة، كما كانت عزاء الرسل وجميع المؤمنين وبهجتهم إذ كانت تردد على مسامعهم جميع الكلمات التي جمعتها في قلبها عن حوادث المعجزات قبل وبعد ولادة المخلص، فبإصغائهم إليها كان التلاميذ يجدون تعزية وقوة وشجاعة وتأييدا" بالإيمان، ويكنون لها بالاحترام لأنها أم ربهم وخالقهم ولأنها أعلم الجميع بتلك المعجزات وأصدق شاهد لها.

وفي اليوم الخمسين يوم العنصرة العظيم كانت والدة الإله مع التلاميذ كلهم في العلية يصلون بحرارة لقبول المعزي الموعود به من ابنها، وفي الساعة الثالثة من النهار سُمعت في الهواء ضجة شديدة فجائية كأنها عاصفة وملأت البيت وظهرت لهم شهب نارية كمثل ألسنة واستقرت على رأس كل واحد من الحاضرين فامتلئوا كلهم من الروح القدس، وقد قبلت العذراء الروح القدس مع التلاميذ بغزارة أكثر منهم لأنها كانت الإناء المصطفى الأعظم من الجميع والأسمى من كل الرسل والأنبياء والقديسين والملائكة وكل الطغماة السماوية.

ظل الرسل في أورشليم عشر سنوات ولم يتفرقوا إلا بعد أن قام هيرودس أغريبا بمطاردة المسيحيين جميعاً في كل مكان، أما والدة الإله فقد بقيت تقيم في بيت القديس يوحنا (الحبيب) اللاهوتي بعد أن طلب منها ابنها الوحيد ذلك وهو على الصليب، وهكذا انطلق الرسل من العلية إلى كل أنحاء العالم واليهودية والسامرة واللد وقيصرية وإنطاكية وإسبانيا ليبشروا بالرب يسوع وملكوت السماوات، إلا أنهم كانوا سرعان ما يعودون إلى أورشليم إما لينظموا خلاص المؤمنين ويثبتوا كنيستهم، وإما ليروا أم الرب ويسمعوا منها الأقوال الإلهية الملهم بها من الله، وكان الرسول يوحنا الحبيب كان لا يفارقها أبدا حتى آخر حياتها سيما عند ذهابه إلى التبشير فقط، ولكن سرعان ما يعود إليها ليبقى بقربها ويرعاها بكل احترام وتقدير وبطاعة الابن لأمه، وقد ذاع مجد الرب يسوع بين الأقوام والأمم كلهم ودوى اسم والدته فغبطتها الأجيال كلها كما تنبأت بذلك عندما كانت حاملة بالرب يسوع والتقائها بأليصابات نسيبتها.

وقد كتب القديس أغناطيوس حامل الإله إلى القديس يوحنا اللاهوتي يقول له:

"إن كثيراً من النساء عندنا يرمن أن يزرن أم يسوع ليشاهدنها فقد ذاع مجدها عندنا كثيراً، ألا وهو أنها والدة الإله الحقيقية المستمرة عذراء  وأنها تثير في جميع الناس التعجب منها والكرامة والمحبة لها حتى أن الجميع يتلهفون برغبة شديدة لرؤيتها، ويقولون بأنها تظل سعيدة في الاضطهادات والملمات ولا تحزن في الفقر والعوز ولا تحنق على من يهينها بل تحسن إليهم، وأنها لطيفة وتحن على المساكين وتساعدهم بكل طاقتها وأنها فضلاً عن ذلك تقف بكل تيقظ على حراسة الإيمان ومعلمة حكيمة للتقوى، وقد اخبرنا أناس موثوق بهم بان الطبيعة البشرية فيها اتحدت على ما يظهر بالملائكية وهذا كله قد أثار فينا الرغبة الشديدة لنرى هذه الأعجوبة السماوية المدهشة والمجيدة جدا".

وفي رسالة ثانية منه إلى نفس القديس كتب يقول:

"إذا كان بإمكاني أن احضر إليك لألتقي بالقديسين الأمناء وأشاهد على الأخص أم يسوع التي يقال عنها أنها تبعث في الجميع الدهش لها والمحبة والإكرام فيرغبون في رؤيتها، ومَن لا يرغب في مشاهدة العذراء الفائقة القداسة والطهارة ؟؟. بل مَن لا يتمنى أن يحادث التي ولدت الإله الحقيقي ؟؟.. 

وكتب القديس ديونيسيوس الأريوباغي العلامة الأثينائي الشهير إلى القديس بولس الرسول بعد أن اهتدى على يده  وزار مريم والدة الإله في أورشليم قائلاً له:

"أعترف أمام الله أنه كان يظهر لي مستحيل التصديق أن يكون أحد غير الله وحده طافحاً بالقدرة الإلهية والنعمة العجيبة، فلا أحد من الناس يقدر أن يعلم ما قد رأيت وأدركت ليس بالعينين الروحيتين فقط بل وبالجسديتين أيضاً، أنني عاينتُ بعينيَّ أم يسوع ربنا ذات الصورة الإلهية والأقدس من جميع الأرواح السماوية…إنني أشهد بالله الذي عاش في جوف العذراء الفائق الطهر بأني لو لم أحفظ في ذاكرتي وعقلي المستنير حديثاً تعليمك الإلهي لاعتبرت العذراء هي الإله الحقيقي وقدمت لها السجود اللائق بالله الحقيقي وحده، لأن العقل البشري لا يستطيع أن يتصور شرفاً ومجداً للإنسان الممجد بالله أسمى من تلك الغبطة التي استحققتُ أنا غير المستحق أن أتذوقها، فأشكر إلهي، وأشكر العذراء الإلهية وأشكر الرسول يوحنا الفائق اللطف، وأشكرك أنت أيضا" لأنك أبديت لي عن تعطف عظيم من الإحسان".

وبعد مرور أربع واربعين سنة من ميلاد المسيح عاد هيرودس أغريبا إلى مطاردة المسيحيين، فقطع رأس يعقوب الرسول ، واعتقل بطرس في السجن ونوى على قتله، فتفرق الرسل في كل أنحاء العالم للتبشير بموافقة والدة الإله، وبقيت هي في أورشليم بعد أن أوحي لها من الله بان لا تغادرها إلى أن يحين موعد انتقالها إلى بلاد أخرى بأمر من الله لهدايتها وتبشيرها،  فزارت أفسس، وإنطاكية لتواجه القديس أغناطيوس حامل الإله لأنها كتبت له بأنها ستزوره يوماً، ثم انتقلت إلى جبل آثوس المليء بالمعابد الوثنية وحال وصولها إليه سقطت الأصنام وهوت متكسرة مهشمة وصاحت الأرواح الشريرة من داخلها مطيعة للقدرة الإلهية وقالت للناس:

"يا أيها الناس الذين استغواهم ابولون أسرعوا في الخروج من الجبل واذهبوا إلى الشاطئ إلى مرفأ  كليمنضوس لتلاقوا مريم أم يسوع الإله العظيم وتستقبلونها".

وهكذا آمن جميع الناس هناك واعتمدوا واصبح الجبل حتى يومنا هذا مليء بالأديرة المقدسة الغاصة بالرهبان والنساك واصبح اسمه " الجبل المقدس".

ثم انطلقت إلى جزيرة قبرص لتشاهد لعازر الذي أقامه الرب من بين الأموات والذي اصبح أسقفاً عليها على يد برنابا وأهدته بطرشيلاً (اوموفوريون) وكمين من صنع يديها الطاهرتين.

وقد كتب القديس أمبروسيوس الذي وصف العذراء وحياتها على الأرض وتصرفاتها مع الآخرين فقال:

"إنها لم تكن عذراء بالجسد فقط بل بالروح أيضاً، فهي متواضعة في القلب وحكيمة بالله في الكلام ومتأنية في المحادثات، وكانت مشغولة دائماً بالقراءة ونشيطة في الأتعاب، وعفيفة في المخاطبة، كأني بها كانت تخاطب الله دائماً لا الناس، ولم تهين أحداً بل كانت على العكس تتمنى للجميع الخير ولم تزدري أحداً ولا تضحك من أحد، ولم يكن يخرج من فمها إلا كلام النعمة، أما في الأعمال فالحشمة والبكارة كانتا تشاهدان جليا" في تصرفاتها".

وزاد أبيفانيوس ونيكيفوروس عليه ما يلي:

"كانت في جميع أعمالها صالحي الضمير ثابتة، تتكلم قليلاً جداً عن الواجب وعن الخير، وعذبة جداً في محادثتها تسمع بانتباه للجميع وتعطي كل واحد الإكرام الواجب، وسلوكها لطيفاً ولا تسخط على أحد. قامتها متوسطة، ولون وجهها لون حبة الحنطة، وشعرها ذهبياً، ونظرها حاداً، وحاجباها مائلين قاتمين، وأنفها غير قصير، ولون فمها كلون الورد، ووجهها مائلا" إلى الطول كيديها وأصابعها، وثيابها بسيطة غير مزينة كما يدل غطاء رأسها المحفوظ حتى الآن، وفي ذاتها كلها كانت تسطع بنور إلهي النعمة الغزيرة الفاضة".

انتقــال والــدة الإلــه

"نعظمك يا أم المسيح المنزهة عن كل عيب، ونمجد انتقالك المجيد"

مريم العذراء الكلية القداسة لم تقف عن الصلاة من أجل انتقالها إلى المسكن السماوية لتتنعم بمرأى وجه ابنها وإلهها فراحت تستعطف ابنها لنقاها إلى السماء، وكانت تصلي باستمرار على جبل الزيتون في المكان الذي كان ابنها الرب يسوع يصلي فيه.

وبينما هي تصلي في أحد الأيام ظهر لها رئيس الملائكة غفرائيل وبشرها بموعد انتقالها بعد ثلاثة أيام، وأعطاها غصن شجرة نخل فردوسية وقال لها:

"إن هذا الغصن الساطع بضياء النعمة السماوية ينبغي أن يوضع أمام قبر العذراء الفائقة القداسة في يوم دفن جسدها الطاهر".

فقبلته العذراء بفرح عظيم وشكرت الرب ساجدة أمامه واستعطفته بتواضع شديد لكي لا يرى رؤساء الظلمة والجحيم روحها في ساعة خروجها بل ليتقبلها الرب نفسه في يديه الإلهيتين وسألته أن تُعطى أن ترى الرسل القديسين المتفرقين في جميع أنحاء المسكونة قبل تسليمها الروح.

فتهيأت مريم لمغادرتها هذا العالم الأرضي إلى العالم السماوي، وأخبرت القديس يوحنا وأرته الغصن الفردوسي وطلبت منه بتهيئة الشموع والبخور وبكل ما هو ضروري للدفن.

وبعد أن عهدت برغائبها إلى الرسولين يوحنا ويعقوب ابن خطيبها يوسف ارتفع فجأة ضجيج كالعاصفة ورأى الجميع السحب المنيرة تحيط بالبيت، فحقق الرب رغبة أمه الفائقة القداسة لأن الرسل القديسين خُطفوا بقدرة إلهية من جميع جهات العالم وحُملوا على السحب إلى البيت الذي تقيم فيه فالتقوا الرسل عند باب البيت وفرحوا وتحيروا متسائلين عن سبب هذه الأعجوبة الحادثة لهم، فلاقاهم القديس يوحنا اللاهوتي وأخبرهم بخبر انتقال مريم أم الرب إلى الأخدار السماوية فتملكهم حزن عميق لفراقها، كما حضر القديس بولس الرسول ومعه تلاميذه ديونيسيوس الأريوباغي وأياروثاوس وتيموثاوس وغيرهم من السبعين رسولاً.

وفي اليوم الثالث وفي الساعة الثالثة من النهار أُشعلت الشموع وأحاط الرسل بسرير مريم، وفيما هي تصلي منتظرة نهايتها إذا بحجاب البيت قد انفتح وأنار ضياء المجد الإلهي جميع الحاضرين فخافوا جميعهم وظهر ملك المجد نفسه الرب يسوع المسيح الإله تحيط به صافات القوات السماوية ونفوس الصديقين، وظهر لأمه الفائقة القداسة التي فرحت بمرآه وقالت له:

"تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع أمته" . (لوقا 1 : 46-47)

ونهضت عن سريرها وسجدت لربها وسمعت منه الدعوة الإلهية :

"هلمي يا أمي، هلمي يا حبيبتي فادخلي مسكن الحياة الأبدية".

فأعادت مريم صلاتها وقالت:

"اقبل روحي بسلام وصنّي عن الجهة المظلمة".

فهدّأ الرب من روعها وأخبرها بأن قوات الجحيم قد ديست بقدميها الطاهرتين، فهمّت للانتقال إلى السماء وصرخت قائلة:

"يا الله..إن قلبي لمستعد..فليكن لي حسب قولك".

وعادت إلى سريرها وأسلمت روحها بين يدي ابنها، حينئذ دوى النشيد الملائكي وسمعت الكلمات تقول:

"افرحي يا منعما" عليها الرب معك مباركة أنت في النساء".

ونقلت روحها الطاهرة إلى الأخدار السماوية بيدي الرب وصحبة القوات السماوية، ولما صعد الرب بروحها إلى السماء قبّل الرسل والمؤمنون جسدها الطاهر بخوف ورعدة، وشفي جميع المرضى الذين لمسوه، والعميان أبصروا، والصم سمعوا، والعرج مشوا، والشياطين طُردت.

وشرع الرسل القديسون في دفن جسدها الطاهر وبكوا خسارتهم العظيمة على الأرض بعد الرب يسوع وتعزوا بالإيمان بأنهم نالوا في السماء شفيعة ومصلية لهم عند الله .

وحمل بطرس وبولس ويعقوب والرسل الآخرون جسدها الطاهر على أكتافهم وتقدمهم يوحنا اللاهوتي وهو يحمل الغصن الفردوسي الزاهر، والناس يحملون الشموع والمباخر وهم متجهين من صهيون مارين بأورشليم إلى قرية الجسمانية ومرنمين المزامير أمام نعشها الطاهر، ورافقت الموكب سحابة ناصعة النور كإكليل فوق جسدها وجميع المشيعين، وفي السماء انتشر الترنيم السماويين العجيب.

فسمع أعداء الرب يسوع خبر الموكب الجنائزي فأرسلوا بعض المؤيدين لهم من الشباب الطائش وزودوهم بالسلاح وحرضوهم على الهجوم على الموكب لقتل الرسل وإحراق جسد مريم الكلية الطهارة، إلا أن الإكليل السماوي كان يحجب الموكب عن الناس كالحائط، فكان المهاجمون يسمعون الترانيم ووقع أقدام المشيعين إلا أنهم لم يروا شيئاً.

وتميز على الخصوص بالحقد على المسيحيين أحد كهنة اليهود المدعو أثناسيوس إذ جدف على سرير والدة الإله وعلى ابنها الرب يسوع، وهاج الشر والحقد في صدره فاندفع بشراسة إلى السرير وأراد أن يرمي الجثمان الطاهر على الأرض وما كادت يداه تمسان النعش حتى بتر ملاك الرب كلتا يديه بسيف الغضب الإلهي، فتدلت يداه المقطوعتان على السرير وسقط على الأرض في عويل مرعب، وشعر بخطيئته العظيمة وطلب من الرسل قائلاً:

"ارحموني يا عباد المسيح".

فأوقف بطرس الرسول الموكب وقال له:

"نحن لا نستطيع أن نشفيك..لكن ذاك الذي صلبتموه أنتم هو القادر وحده على كل شيء أعني ربنا يسوع المسيح، إلا أنه لا يمنحك الإبراء حتى تؤمن به من كل قلبك وتعترف بفمك بأن يسوع هو الحقيقة ماسيّا ابن الله".

حينئذ صرخ أثناسيوس وقال :

"أؤمن بأن المسيح هو ماسيّا الموعود به مخلص العالم".

فابتهج الرسل والمؤمنون جميعا" بخلاص النفس الهالكة، وأمر بطرس الرسول أثناسيوس بأن يطبّق ما تبقى من يديه المتدليتين ويدعو باسم والدة الإله ويطلب المغفرة منها عن إلحاقه الإساءة بها، وما أتم أثناسيوس ما أمره به بطرس الرسول حتى التحمت كلتا يديه في الحال وتعافتا ولم يبقَ عليهما إلا خط أحمر اللون كالخيط حول المرفقين للدلالة على القطع، فسجد أثناسيوس أمام سرير والدة الإله وآمن بالرب يسوع.

ولما انتهى الموكب إلى الجسمانية أبتدأ تقبيل الوداع للجثمان الفائق الطهارة بالدموع والنحيب حتى لم يتسنى للرسل القديسين أن يودعوه ويسدوا باب المغارة بحجر كبير إلا عند المساء، وأقام الرسل في تلك القرية ثلاثة أيام مرنمين ليلاً ونهاراً ترانيم الصلاة عند ضريح والدة الإله، وشاركت القوات الملائكية في تمجيد الله وامتداح مريم العذراء المنعم عليها طيلة الأيام الثلاثة.

شاءت المشيئة الإلهية للكشف عن حقيقة قيامة والدة الإله من بين الأموات بأن يتأخر القديس الرسول توما عن موعد التشييع فوصل الجسمانية في اليوم الثالث بعد الدفن، وعندما علم بتأخره وخسارته بالتبرك من جسد والدة الإله الطاهر انطرح أمام مغارة القبر في نحيب الحزن المرير وراح يتوسل بالرسل كي يفتحوا له القبر ليتبارك من الجسد الطاهر وبقدر ما توسـل بهم تحنـن القديس بطرس على حالته الداعية للشفقة وأمر بفتح باب القبر، وعندما دحرجوا الحجر عن باب القبر لم يجدوا فيه إلا أجهزة الدفن فقط وقد فاح منها رائحة طيبة لا توصف ، أما الجسد الطاهر فلم يكن في القبر أبداً فدهشوا وارتابوا وقبّلوا الكفن الباقي في القبر بورع مبتهلين إلى الرب أن يكشف لهم سر ذلك.

وكان الرسل أثناء اجتماعاتهم للصلاة يتركون على المائدة مكانا" فارغاً للرب يسوع وأمامه قطعة من الخبز، وبعد الصلاة يأخذونها ويوزعونها على بعضهم البض لكي يبقى ذكرى الرب يسوع قائماً بينهم مجتمعين أو متفرقين.

وبقي هذا الترتيب في الجسمانية بعد رجوعهم من الدفن، وبينما الرسل جالسين إلى المائدة يفكرون ويتساءلون عن أمر اختفاء الجثمان الطاهر وهم بخوف ورهبة وارتياب، وما أن رفعوا خبز الرب كعادتهم فإذا بهم يسمعون فجأة ترنيمة ملائكية تصدح في السماء، فرفعوا عيونهم ليجدوا في الفضاء والدة الإله العذراء الكلية القداسة والقوات السماوية محيطة بها، وهي مشرقة بمجد لا يوصف، فقالت لهم:

"افرحوا…إني معكم كل الأيام حتى انقضاء الدهر".

فهتف التلاميذ بابتهاج مع جميع الحاضرين معهم من المصلين:

"يا والدة الإله الفائقة القداسة أعينينا".

وبذلك تحقق للرسل القديسون أن والدة الإله قد أقامها ابنها وإلهها من القبر في اليوم الثالث بعد انتقالها، فأخذها إلى السماء بالجسد كما قام هو من بين الأموات بالجسد أيضاً، وسلموا إلى الكنيسة كلها إيمانهم هذا الذي لا شك ولا ريب فيه أبداً.

اخذ الرسل الكفن المتروك في القبر تحقيقاً للغائبين وتعزية للمعذبين ورجعوا إلى أورشليم وتفرقوا مسرعين إلى جميع أقطار العالم ليبشروا بالإنجيل، لذلك الكنيسة تسمي نهاية حياة والدة الإله رقاداً لأنها نامت مدة قصيرة ثم استيقظت وكأنها في حلم.

السيدة العذراء لم تهمل طلبات المتشفعين بها إلى ابنها الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح عندما كانت على الأرض كما وهي في السماء أيضاً، على أن يطلبوا منها بإيمان كلي وثقة كبيرة.

فبشاعاتها أيها الرب يسوع خلص نفوسنا.

طر وبارية الرقاد:
في ميلادك حفظتِ البتولية وصنتها، وفي رقادكِ ما أهملتِ العالم وتركته يا والدةَ الإله، لأنكِ انتقلتِ إلى الحياة بما انكِ أم الحياة، فبشاعاتكِ أنقذي من الموت نفوسنا.

 

 

                                       

 

الصفحة الرئيسية  |  الكنيسة  |  آبائيات  |  دينيات  |  مقالات  |  نشاطات  |  معلومات  |  أماكن مقدسة  |  خريطة الموقع  |  أتصل بنا
© 2006-2009 الأب الكسندروس اسد. جميع الحقوق محفوظة - تصميم وتطوير اسد للتصميم