أبصر قدّيسنا النور في مدينة أنطاكية العظمى حوالي العام 344 للميلاد، كان أبواه من عليّة القوم، والده كان قائداً للجيش الشرقي في الإمبراطورية وكان وثنياً، وقد رقد بعد ولادة يوحنا بقليل، والدته أنثوزا هي التي حضنته وربته للمسيح، وأبت أن تتزوج من جديد مؤثرة الانصراف إلى حياة الفضيلة ومكتفية بتربية ابنها.
تتلمذ يوحنا في أنطاكية وهو في الرابعة عشرة من عمره للفيلسوف الأفلاطوني الجديد ليبانيوس إلى سن الثامنة عشرة.
اقتبل يوحنا المعمودية في سن متقدمة قد تكون الثامنة عشرة، معمده كان القديس ملاتيوس الأنطاكي، اسفف أنطاكية العظمى، أقام راهباً في بيته إلى أن توفيت والدته، وحوّل يوحنا البيت إلى دير، ثم انصرف إلى الجبال جنوبي أنطاكية حيث أمضى ست سنوات، راهباً ثم ناسكاً.
سامه البطريرك ملاتيوس شماساً في العام 380 م، وفي العام 386 م وضع فلافيانوس، أسقف أنطاكية الجديدة، يده على يوحنا وجعله كاهناً، يومها ألقى الذهبي الفم أولى مواعظه في حضور الأسقف، وتجلى كأهم وأبلغ وأخصب واعظ عرفته الكنيسة الجامعة المقدسة على مدى الأيام، وفي أنطاكية بصورة خاصة، أغنى القدّيس يوحنا المسكونة بمواعظه على امتداد اثني عشر عاماً.
وهو إلى جانب كونه سيداً في الفصاحة والبلاغة وله معرفة بالكتاب المقدس لا تدانى كان سيداً في نقل الإنجيل إلى الناس بلغة يفهمونها. وتسمية "الذهبي الفم" أطلقها عليه المتأخرون في القرن السادس للميلاد.
في أواخر العام 397 م توفي القديس نكتاريوس رئيس أساقفة القسطنطينية فأصدر الإمبراطور أركاديوس مرسوماً يقضي بتعيين يوحنا كاهن أنطاكية، رئيس أساقفة القسطنطينية، فحالما تسلم عصا الرعاية انطلق في مواعظه النارية فاستقطب جموعاً غفيرة أخذت تتقاطر عليه لتسمعه بغيرة وحماس، التزم خط الفقر الإنجيلي وأخذ يبيع معالم الترف من المقر الأسقفي، وحول الأموال المجتمعة لبناء المستشفيات ومضافات الغرباء والتوزيع على الفقراء .
وكان طبيعياً أن تؤدي عظاته وإجراءاته إلى تباين المواقف بشأنه، المتضررون من التدابير الجديدة والذين لم ترق لهم مواعظه المتشددة كانوا كثيرين: أساقفة وكهنة وكثير من أبناء المجتمع المخملي لاسيما الإمبراطورة أفدوكسيا زوجة الإمبراطور أركاديوس و أسقف الإسكندرية ثيوفيلوس الذي حضر إلى القسطنطينية خلال شهر آب من العام 403 ميلادية وتحرك بسرعة وتمكن من عقد مجمع في ضاحية من ضواحي مدينة خلقيدونيا، وقرر المجمع عزل يوحنا عن منصبه كأسقف على القسطنطينية بناء للائحة اتهامية تضمنت تسعة وعشرين تهمة، وكان موقف يوحنا حيال هذا المجمع هادئاً ورفض قراراته وطالب بمجمع عام، ولكن لما رأى أن أركاديوس وقّع عليه وأمر بنفي يوحنا، التزم الصمت واستسلم للأمر الواقع.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فإن زلزالاً هز المدينة في اليوم التالي جعل الإمبراطورة أفدوكسيا تشعر بأن الله غاضب عليها فأقنعت زوجها الإمبراطور للحال باستعادة يوحنا والتمست منه المغفرة.
وعاد يوحنا إلى كرسيه ولكن لفترة شهرين وحسب، لأنه وفي عيد استشهاد القديس يوحنا المعمدان رفع صوته مهاجماً الإمبراطورة لأنها أقامت لنفسها تمثالاً مقابل الكنيسة فساءها الأمر جداً وعزمت على التخلص منه نهائياً.
ومن جديد صدر مرسوم ملكي يقضي بتجريد الذهبي الفم من سلطاته، فودع خاصته هذه المرة بلا رجعة، ودعهم وارتحل إلى الشهادة فالموت.
وقد عبر الذهبي الفم فيما بعد عن موقفه الداخلي العميق حيال نفيه الأول والثاني :
"عندما أخرجوني من المدينة لم أكن قلقاً بل قلت لنفسي : للرب الأرض بكمالها ، لو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح"
بهذا الشعور خرج القديس يوحنا إلى المنفى ، جره جلادوه حتى الموت ثلاث سنوات وثلاثة أشهر باتجاه الحدود بين كيليكيا وأرمينيا حيث عانى من الحر والبرد ، والمرض و الإرهاق ، وكانت أكثر رسائله المائتين والاثنتين والأربعين المنسوبة إليه قد كتبها في تلك الفترة من حياته
كان له في المنفى دور أكبر مما كان علية في كرسيه، لذا أُعطيت التوجيهات للجنود المرافقين له لمنع الرسائل والتضييق عليه ، فأرهقوه لدرجة لم يعد يحتملها، وظهر له الشهيد باسيليكوس في الحلم قائلاً : "تشدد يا أخي يوحنا فغداً نلتقي" فطلب في الصباح ملابس بيضاء واشترك في سر الشكر ثم أسلم الروح، وكان قد أتم الستين من عمره والعاشرة من أسقفيته، نقلت رفاته إلى القسطنطينية بعد إحدى وثلاثين سنة من رقاده في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني 438 ميلادية.