أولاً – أعمال إيليا : نقرأ في سفر الملوك الأول ( 16 : 29-34 ) عن شرور أخاب التي انتهت به إلى عبادة بعل إله الصيدونيين معبود الملكة إيزابيل، وقد جاء في هذا الفصل ذكر حادثة أخرى ( العدد 34 ) حدثت في عصر أخآب تدل على مدى الاستهانة بإنذارات نبوية قديمة، بإعادة بناء أريحا بواسطة حيئيل البيتئيلي ففقد ابنيه الأكبر والأصغر. هذه هي الحال التي استلزمت قضاء الله، الذي سبق التنبؤ عنه، فأرسل الله نبيه الأمين لإعلان هذا القضاء
1. العقاب بالقحط : يعلن إيليا لأخـآب في كلمات قليلة أن الرب هو الإله الحقيقي الوحيد لإسرائيل وأنه مرسل منه، وأن الرب سيرسل عليهم القحط الذي سيستمر إلى أن يقرر الله نهايته. فخبأ إيليا نفسه في أحد الوديان في شرفي الأردن حيث يوجد نهر كريث ليمده بالماء، والغربان تعوله " بخبز ولحم " مرتين في اليوم، وإذ استمر الجفاف ، يبس النهر، فأمره الله أن يذهب إلى ما وراء تخوم مملكة أخآب الغربية إلى قرية صرفة التي لصيدا وهناك كانت الأرملة التي أرسله الله إليها، تجمع بعض عيدان الحطب عند باب المدينة، لتعد آخر وجبة غذائية لها ولابنها. وأطاعت الأرملة أمر النبي بأن تعمل له كعكة صغيرة أولاً من هذا المخزون الضئيل الذي بقى لها وكانت النتيجة أنها تمتعت بإتمام الوعد الذي أعطاها إياه إيليا باسم الرب، بأن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى أن يأتي الرب بالمطر. ولما مرض ابن الأرملة ومات، ظنت أن ذلك هو قضاء الله على خطاياها جاء عليها بسبب وجود نبي الله، ولكن إيليا أخذه منها وصعد به إلى العلية التي كان مقيما بها وأضجعه على سريره وصرخ إلى الرب … فعادت الحياة إلى الولد ( 1مل 17 : 17-24 ) .
وفى" السنة الثالثة " أمر الله إيليا أن يترائي لأخآب ليبشره بأن الرب سيعطى مطراً على وجه الأرض . وواجه الملك إيليا النبي بكلمات الغطرسة :" أأنت هو مكدر إسرائيل "، ولكن إيليا قابل سخريته بمثلها، فويلات إسرائيل لا تعود إلى النبي الذي أعلن القضاء، بل إلى الملك الذي جعل الشعب يخطئ مما استجلب عليه العقاب
2. المحاكمة بالصلاة : تقدم إيليا ليتحدى اختيار قوة الآلهة الكاذبة ، وكان بين من يأكلون على مائدة إيزابيل 450 نبياً للبعل ، و 400 نبي لعشتاروت ، بالرغم من المجاعة القاسيـة. وبناء على اقتـراح إيليا، دعا أخآب كل هـؤلاء مع كل الشعب إلى جبل الكرمل ( 19و 20 ) . كانت كلمات إيليا الافتتاحية، تكشف عن حماقة من يظنون أن الولاء يمكن أن ينقسم بين إلهين : " إلى متى تعرجون بين الفرقتين " واعتماداً على صمت الشعب واعتباره علامة على قبوله لكلماته الأولى، قدم إيليا اقتراحه وشروطه للامتحان. سيذبح ثوراً للبعل وثوراً للرب، بشرط عدم وضع نار "والإله الذي يجيب بنار فهو الله الحقيقي، فأجاب جميع الشعب وقالوا الكلام حسن". وظل أنبياء البعل – تحت أشعة شمس ملتهبة – يدعون إلههم في شبه جنون، وإيليا يسخر منهم ويتهكم عليهم. وفى ميعاد تقديم ذبيحة المساء في هيكل الرب في أورشليم، أعاد إيليا بناء المذبح القديم الذي هدم في أثناء موجة الاضطهاد التي أثارتها إيزابيل، واستخدم في بنائه اثني عشر حجراً رمزاً لأسباط إسرائيل جميعها في وحدة واحدة، ثم غمر الذبيحة والحطب بالماء من نبع ماء تحت منحدرات الكرمل، حتى امتلأت قناة عميقة متسعة حول المذبح وبكلمات قليلة دعا الله، إله الآباء فاستجاب الرب بنار أكلت الثور والحطب والتراب، ولحست المياه التي في القناة حتى ارتجف جميع الشعب فزعاً، وإذ اقتنعوا بأن الرب وحده هو إلههـم، نفذوا حكم النبي الجازم بالقضاء على كل أنبيـاء البعل، ثم طلب إيليا من أخـآب أن يسـرع إلى بيته ليأكل الوليمة احتفاء بسقوط المطر. وصعـد إيليا إلى قمة الجبل وخر إلى الأرض ساجداً للرب في صلاة. وأرسل خادمه سبع مرات ليستطلع الجو عبر البحر، وأخيراً رأى غيمة صغيرة قدر كف إنسان صاعدة من البحر، وقبـل أن يعبر الملك وادي يزرعيل، هطل المطر العظيم من السماء التي تلبدت بالغيوم الداكنة بعد ثلاثة سنوات من الجفاف. وكانت يـد الرب على إيليـا فشـد حقويـه وركض – بقـوة خارقـة – حتى أبواب يزرعيل.
3. في حوريب : في تلك الليلة جاء رسول من إيزابيل إلى إيليا يحمل له رسالة : " أنت إيليا وأنا إيزابيل هكذا تفعل الآلهة وهكذا تريد إن لم اجعل نفسك كنفس واحد منهم" ( أي من أنبياء البعل المذبوحين ) " في نحو هذا الوقت غداً". فهرب إيليا فوراً طلباً للنجاة. وفى بئر سبع فى الطرف الجنوبي ليهوذا، ترك " غلامه " وسار في البرية الجنوبية وصلي طالباً الموت لنفسه. وجاءه ملاك بوجبة وأيقظه ليأكل، فأكل وشرب ثم رجع فاضطجع فجاءه الملاك مرة ثانية وأيقظه وقال له "قم وكل لأن المسافة كثيرة عليك"، فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب ودخل هناك المغارة وبات فيها..
وقال إيليا: "غيرة غرت للرب إله الجنود لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها". وأمره الرب أن يقف على الجبل المقدس ( لأنه هناك أظهر الرب ذاته لموسي )، وإذا بالرب عابر معلناً قدومه بالريح العظيمة والزلزلة والعاصفة الرعدية، ولم تكن هذه إلا مجرد نذر، فلم يكن الرب فيها، لكنه كان في "الصوت المنخفض الحفيف" وهو ما اعتاد الأنبياء سماعه في قرارة نفوسهم، ولما سمع إيليا هذا الصوت الداخلي المألوف، تيقن من وجود الله ليسمعه ويجيبه. حاول إيليا أن يبرر هروبه إلى البرية، بأنه قد غار غيرة شديدة للرب، وفعل من أجل الرب قبل أن يهرب كل ما يستطيع نبي زائل أن يفعله ولكن بلا طائل، فإن الناس الذين أهملوا شريعة الرب وعهده وهدموا مذابحه وقتلوا أنبيـاءه، كانوا على استعداد أن يذبحوا إيليا نفسه بأمر من إيزابيل، وبذلك يقضون على الخادم الأمين الوحيد للرب في كل أرض إسرائيل.
فكان على إيليا أن يمسح حزائيل ملكاً على أرام، أقـوى عدو بين جيران إسرائيل، وأن يمسح ياهو بن نمشي ليقضى على بيت أخـآب ويتولي عرش إسرائيـل، وأن يمسح أليشع نبياً عوضاً عنه. هؤلاء الثلاثة سيقضون على عبدة الأوثان والمازحين فى إسرائيل.
4. قضية نابوت : يبدو أن مسح حزائيل ملكاً على أرام، وياهو ملكاً على إسرائيل، قد تُرك لخليفة إيليا ويظهر إيليا بعدئذ موبخاً لأخآب على مقتل نابوت، فى نفس قطعة الأرض التي اشتهاها الملك واغتصبها بعد مقتل صاحبها. ظهر النبي أمام أخآب على غير انتظار وعلى غير رغبة من الملك، ليعلن لأخآب وإيزابيل القضاء عليهما بالموت المشين، وكان حاضراً في ذلك المشهد قائد يدعى ياهو ، وهو نفس الشخص الذي اختبر ليكون ملكا على إسرائيل، ولم ينس قط ما رأى وما سمع.
5. إيليا وأخزيا : لقد رفعت توبة أخآب عنه بعض حدود القضاء، ولكن ابنه أخزيا استجلبها على رأسه شخصياً، فقد مرض مرضاً خطيراً، فأرسل أخزيا ليسأل المنجمين فى هيكل بعل زبوب إله عقرون إن كان سيبرأ من مرضه. فقابل إيليا الرسل وأرجعهم بنبؤة موته من الرب. فأرسل أخزيا خمسين جندياً وقائدهم للقبض على إيليا، فأكلتهم نار من السماء كقول إيليا، فأرسل قائداً آخر ومعه خمسون آخرون، فلقوا نفس المصير. أما القائد الثالث فتوسل للنبي أن يبقي على حياته وحياة الذين معه، فذهب النبي معه إلى الملك، ولكن ليكرر نفس كلمات القضاء .
6. صعود إيليا : أوشكت حياة إيليا على النهاية، وقد أقسم أليشع ألا يفارق سيده. وشق إيليا الأردن بضربة من ردائه، وعبر الاثنان معاً إلى الشرق نحو البرية. وطلب أليشع أن يكون له نصيب البكر من روح سيده، ثم ظهرت "مركبة وخيل من نار" وفصلت بينهما و "صعد إيليا فى العاصفة إلى السماء" .
ثانياً – خدمة إيليا : إن تقديرنا لأهمية خدمة إيليا يتوقف على مدى إدراكنا للأحوال التي واجهها النبي في إسرائيل. فبينما كان حكم أخآب ناجحاً بحسب الظاهر، وكان الملك نفسه على درجة من الحنكة السياسية مع شجاعة شخصيته إلا أنه في سياسته الدينية تهاون مع العقائد الباطلة والعبادات الوثنية، مما كان لابد أن يـؤدى إلى الكارثة. فمنذ أيام يشوع كانت عبادة يهوه في صراع مع عبادة الكنعانيين القديمة لقوات الطبيعة، عبادة آلهة محليين مثل " البعليم " أو " أرباب " هذه أو تلك من الأمم المجاورة الذين قامت مذابحهم على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء.
والإله الذي جاءت به إيزابيل من فينيقيـة، كان يحمل أيضاً اسم " بعل "، لكن صفاته وأساليب عبادته كانت أسـوأ وأخس من كل ما عـرف من قبل، وأدت مقاومة عبيد يهـوه لأوامر الملكة بخصـوص آلهتها المفضلـة، إلى اضطهـاد عبيد الرب الأمناء. وفى مواجهة هذا الخطر اختفت الخلافات التي كانت بين عبادة الله في المملكة الشمالية وعبادة الله كما كانت تجرى في أورشليم وكان كل مسعى إيليا، هو دعوة الشعب من عبادة آلهة الصيدونيين إلى عبادة الرب إله آبائهم. ونرى قوة القيادة الحقيقية – في وسط المحنة – في أمانة شخص مثل عوبديا أو ولاء البقية التقية رغم كل ذلك الاضطهاد. إن العمل الذي بدأه إيليا، قد ختمه ياهو بالدم، حتى إننا لم نعد نسمع بعد ذلك عن عبادة البعل في إسرائيل. وافتراض أن إيليا في حوريب عرف معنى " لطـف الله "، ليتعارض تماماً مع القرينة المباشرة ومع تاريخ عصره. وقد جاء الأمر إلى إيليا بأن يمسـح ملكاً على أرام، وآخر على إسرائيل، ونبياً ليكمل رسالته، مع الوعد بأن هؤلاء الثلاثة سيتعاونون معاً في تنفيذ القضاء الذي تستحقه مملكة إسرائيل العاصية لارتدادها عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، ولم يكن إيليا داعياً للسلام، فلقد كانت رؤية السـلام محجوبة عن عينيه، محفوظة عن عينيه محفوظة لأنبياء سيجيئون بعده، كان عليه هو إعداد الطريق. كانت رسالته هي إبادة عبادة الأصنام بأي ثمن لئلا بيبد إسرائيل ذاته، مع احتمالات ومضاعفات يصعب تقدير مضارها، ولولا ما قـام به إيليا تحت إرشـاد الله، لما كان هنـاك أسـاس يقف عليـه عاموس وهوشع .
ثالثاً – شخصية النبي : ما دونه الكتاب عن شخصية إيليا في رسالة الرسول يعقوب ( 5 : 17 ): " كان إيليا إنسانا تحت الآلام مثلنا " ليس إلا عبارة موجزة جداً ولكن بفحص الكتب التي نشرت عن حياة إيليا، نرى أنه من الممكن أنه مخطئ في استقراء معان من الحوادث، لم تقصد إليها هذه الأحداث بل ولا تحتملها، كما أنه من الممكن أن نقحم عليها أموراً هي محض خيال. من السهل مثلا أن نرى بأن إيليا ظهر أمامنا في الكتاب بغتة، وأن أحداث ظهوره واختفائه تبدو غير متماسكة، ألا يكفى لتفسير ذلك، ملاحظة أن المؤرخ لم يقصد أن يضع سيرة كاملة لأي نبي أو أي ملك ولكنه كان يهدف إلى إبراز عمل الله في مملكتى إسرائيل ويهوذا من خلال الأنبياء؟.. لذلك لا نجد سوي بعض الأحداث فيما يختص بنبي مثل إيليا، بل إننا لا نجد شيئا بالمرة يتصل بشخصه إلا إذا كان له صلة مباشرة برسالته وقد تخيل البعض أنه كان ثمة "تدريب لإيليا" في اختبارات النبي، ولكن الإقرار بأنه لم يكن هناك بد من تلك التدريبات ليس معناه بالضرورة أن نستشفها من الحوادث والمشاهد التي تسجلت .
واستبعاد أي محاولة لتصوير تفاصيل الحياة الداخلية لإيليا – للأسباب المذكورة آنفا- لا يمنع من محاولة دراسة ما نراه في ظاهر القصة، من الإيمان بالله بأنه إله الطبيعة وإله العهد مع الآباء ونسلهم، والغيرة الملتهبة ضد العبادة الباطلة التي أزاحت الله عن المكان الذي يجب أن يكون له وحده، والرؤية الواضحة للرياء والباطل، والحكمة العميقة في مقاومة الارتداد بنفس الشجاعة بدون النظر إلى ذاته، وكل ذلك هو ما يبرز سمات النبي الحقيقي في أي عصر .
رابعاً - معجزات فى سيرة إيليا : يجب الاعتراف بان العنصـر المعجزي بارز في اختبارات إيليا وأعماله. ولا يمكن تقييم ذلك بالانفصال عن الموقف العام الذي يقفه الدارس من المعجزات المدونة في العهد القديم. فمحاولة تفسير أي معجزة أو أي جزء منها بطريقة عقلانية، أمر غير مجد على الإطلاق، "فغربان" إيليا ، يمكن بتغيير "الغين" إلى "عين" أن تصبح الكلمة "عربان"، ولكن مع الاعتراف بأن الشرقيين كرماء يمكن أن يأتوا بالطعام للنبي، إلا أن نغمة القصة ككل، تدل على أن الكاتب قصد "الغربان" وليس "العربان"، وأنه رأى فيها مزيداً من قدرة يهوه على كل شيء، كما يظهر ذلك أيضا في كور الدقيق وكوز الزيت، وكفايتهما للنبي وأرمله صرفة صيدا، وفى النار من السماء وشق نهر الأردن، وصعود إيليا في العاصفة إلى السماء. ويرى بعض النقاد المحدثين أن ما جاء في الإصحاح الأول من سفر الملوك الثاني، هو إضافة متأخرة، ولكن ليست ثمة مشكلة حقيقية على الإطلاق، فبإمعان النظر، تزول أي مشكلة، فالنبي الصارم الذي يأمر بذبح 450 من أنبياء البعل، يستطيع أن يطلب أن تنزل نار من السماء لتلتهم جنود ملك مرتد عن الله. إن الغرض والمعنى المقصودين من قصة حياة إيليا، يمكن أن يدركهما أولئك الذين يقبلون فكر الكاتب عن الله وقدرته وعمله في الطبيعة ومع البشر، أكثر من أولئـك الذين يحاولون استبدال هذا المفهوم بآخر .
خامساً – إيليا فى العهد الجديد : ظهور إيليا وموسي على جبل التجلي، نراه مدونا في إنجيل متى (17 : 1-13 ) وفى إنجيل مرقس ( 9 : 2-13 )، وفى إنجيل لوقا ( 9 : 28-36 )، ويقول الرب يسوع إن إيليا المذكور في ملاخي هو يوحنا المعمدان. ولاشك أن مصير جنود أخزيا كان في ذهن يعقوب ويوحنا حينما أرادا أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضا ( لو 9 : 54 ). ويشير المسيح نفسه إلى إيليا وذهابه إلى صرفة التي للصيدونيين ( لو 4 : 26.25 ). ويذكر بولس ما حدث من النبي في حـوريب ( رو 11 : 2-4 )، وفى رسالة يعقوب نرى فيما فعله إيليا قوة فاعلية صلاة البار.
طروبارية النبي إيليا:
أيها الملاك بالجسم قاعدة الأنبياء وركنهم
السابق الثاني لحضور المسيح إيلياس المجيد الموقر
لقد أرسلت النعمة من العلى لأليشع ليطرد الاسقام ويطهر البرص
فلذلك يفيض الاشفية لمكريميه دائماً.