العفة في معناه العصري تعني رفض الحياة الجنسية الفاعلة. أو البحث عن حياة جنسية ايجابية لكن غير تملكية. وبشكل أوضح العفة هي أسلوب متسام لتحقيق الحياة الجنسية; وهي تصح في الزواج كما في العزوبية لأنها تعد كائن بشري كلا لا يتجزأ. وبمعنى آخر إن متبع العفة يعطي حياته معنى جوهريا آخر في علاقاته مع الآخرين .
العفة لا تحتقر اللذة الجنسية أو الغرامية, بل تضعها في خدمة علاقة اشمل مع الآخر. إنها ترغب في الأخر وتحبه. ومطلب العفة الأساسي يختصر أي أن لا يقع احدهما أبداً فريسة أنانية للحصول على المتعة الشخصية، فالرغبة في الاكتفاء وتحويل الآخر إلى خادم لتلك الرغبة يعنيان نقيض العفة. العفة لا تعني انتقاصا من الجنس, إنما تعتمد قبول كل واحد في ذاته. فالعفة تعلمنا التواضع وقبول نقائص الآخر .
هكذا تحقق العفة أعمق أغوار الحياة الجنسية الإنسانية, إذ تسلك طريقا صعبة وطويلة. طريق تعلم اللقاء بالآخر, هذه الطريق لا يسلكها سوى المحب الحقيقي. لذا يرى الإيمان المسيحي في هذا النوع من الحب المكان الأمثل للقاء مع الله الذي يبقى دائما الآخر مختلفا على الدوام عن الصورة التي نحملها عنه ..
الجنس هو دعوة إلى تعميق علاقتنا الصحيحة مع ذواتنا ومع الآخرين ومع الله. غير أننا نجد إنسان اليوم يعيش في دوامة من ذاته الأصلية فيبقى الجنس في نظره غامضاً. يجب أن توضح رؤية للجنس انطلاقا من الأبعاد المختلفة لكي يستطيع الإنسان أن يدرك معنى الجنس والحب في عمق العلاقة الثلاثية - الذات - الآخر - الله. لكي ينفتح الإنسان ويتحرر إلى مستوى الإلهي لكي يتجلى الله الثالوث الذي هو الحب بالذات وينبوع كل حب .
الله محبة, ولهيب الحب من لهيب الله. فكل حب بشري هو شرارة من نار الحب الإلهي, وكل حب إنساني لا يرتوي من نبع الله الفياض هو فقير ومشوه. وكل تعريف يتجاهل الإنسان هو ناقص .
هناك في الوصية السابعة تقول: ( لا تزن ) , لا تزن تعني أساسا لا تكسر الزواج. لأن الزواج هو شيء عال ورفيع لأن الله خلق أنثىً وذكراً على صورته خلقهما ( تك )، لحم من لحمي وعظم من عظمي. في هذه الوصية الأهم هو الإنسان, لأن الجسد ليس رديء في ذاته; لأن كثير من المتدينين لهم أفكار خاطئة في هذه الوصية. فإذن السؤال يطرح نفسه هو : ماذا يخالف الطهارة إذن ?.. الجواب هو كل ما ينتهك الإنسان الآخر في علاقاته العميقة بشريك حياته. فكما أني اجرح الإنسان الآخر ( اقتله ) عندما ابغضه حتى دون معرفته, كذلك عندما اشتهي امرأة غيري حتى في قلبي اجرح الإنسان الآخر .
إن انفتاح الإنسان إلى الجنس الآخر والالتقاء والاتحاد به شخصياً قد لا يؤدي للأسف إلى حب عميق بل إلى حب ناقص وذلك لأنه قد يحب الواحد الجنس الآخر لأجل المتعة الآنية فقط، فلا ينفتح كما يجب على الآخر في عمق كيانه الإنساني بل يكون سطحي مع المظهر الخارجي والشكلي. في حين إذا انفتح الحب بين الجنسين على عمق الكيان الإنساني سيتوضح الأبعاد المختلفة المترابطة بعضها البعض الجسدية والعاطفية والروحية .
لكن هناك نظرتان أو موقفان:
الموقف الأول: الحب الأفلاطوني، وفي هذا الموقف يرى أن الحب الخالص هو الحب اللاجسدي والخالي من الرغبات الجنسية والشهوة. ويرى أن الجنس هو شيء نجس يعكر صفاء النفس ويعيق انطلاقة الروح. فهذه النظرة هي نظرة منحرفة يقسم الإنسان إلى النفس والجسد والى عالمين متضادين الروح والمادة في صراع مستمر بين تطلعات الروح ومتطلبات الجسد .
هذه الأفكار تسربت إلى شرائح من المجتمع المسيحي وتأثر الناس بها في عصور مختلفة ومن ضمنهم رجال الكنيسة . فاعتقدوا بضرورة الهرب من العالم والاختلاء في الجبال لتقديم العبادة والتقرب إلى الله بعيداً عن العالم الذي هو مصدر الشر والرذيلة. لكن هذه ليست نظرة مسيحية ولم تكن دافع لقيام الحياة الرهبانية. ولا هي حتى من تعاليم الكنيسة, لأن في الكتاب المقدس هناك آية صريحة تقول : " راءى الله أن كل ما صنعه فإذا به حسن جداً " (تك) .
لا بل إن التجسد هو الدليل والبرهان على قيمة الجسد وقدسيته في نظر الرب. لأن النجاسة ليست في الأشياء بل في طريقة التعامل وفي الفعل البشري المنحرف. فسوء استخدام الإنسان لحريته هو الحد الفاصل بين الطاهر والنجس. يقول رسول الأمم بولس : مجدوا الله في أجسادكم .
الموقف الثاني: الانحدار الإباحي، هذا النوع من الحب هو عكس الأول، فانه ينصهر في حرارة الجسد ويذوب تحت نيران الجنس, فبعد أن يستحوذ عليه الجنس يمحو آثاره من الوجود ،ويمسح معالمه من الحياة، فيصبح مجرد طاقة غريزية أو مجرد فعل جسدي لا ينشد إلى الآخر سوى للذة جسدية والمتعة الحسية .
خلال القرن العشرين انتشرت تيارات تنادي بالإباحية والتحرر الجنسي وإطلاق العنان للرغبات المكبوتة بلا أي رادع أو وازع أخلاقي. كاد على أثرها أن يفقد الجنس قدسيته، فتحول إلى مجرد سلعة استهلاكية بحاجة إلى صرف مقابل الحصول على اللذة والمتعة. لكن تبين أن هذا المفهوم هو إطار بلا محتوي وشكل بلا مضمون, فهي ردود أفعال غريزية خالية من القيم. إذ لا يرى في الآخر غير أداة للاستعمال ومصدر للمتعة. لكن هذا انتهاك صارخ لقدسية الإنسان وتدنيس لهيكله الطاهر الذي هو جسد الإنسان
الحب الحقيقي هو كحرارة الشمس يذيب ثلوج الأنانية. وهو عهد بين شخصين مبني على عطاء متبادل والتضحية والاحترام. تجمعهما حياة مشتركة وهدف واحد وهو السعادة والفرح بالمحبوب. أما الرغبة الجنسية فليست إسرافاً وتبذيراً بل هي طاقة ثمينة أودعها الله فينا لتتنفس من خلالها الروح الإنسانية هواء النضوج الشخصي. فهذا الموقف انه قاصر وعاجز عن التعبير عن كيان الإنسان العميقة .
فإذن لتكون لنا نظرة ايجابية إلى الجنس. فالنظرة الناضجة مرتبطة بالنظرة المتكاملة إلى الإنسان في جوانبه المختلفة. إذ أن الله خلق الإنسان وحدة متكاملة, فلا يمكننا أن نفهم جيداً الرغبة الجنسية دون أن نفهم مقوماتها الأخرى التي من ضمن كيانها الإنساني ككل. فالجنس هو بطاقة دخول إلى مسرح الحياة فهو قوة دافعة ومحركة تزيد الإحساس بقيمة الحياة وتشيع في النفس الراحة والطمأنينة..