أيتها الأرثوذكسية..تعصفُ بكِ أهوجُ العواصف..وتحاربكِ اشرسُ القوات المظلمة لاقتلاعكِ من العالم..وانتزاعكِ من قلوب الناس..ارادوكِ أملاً مفقوداً..ومتحفاً مهجوراً..وماضياً مأساوياً..وتاريخاً منسياً..لكن الله القدير الكلي الحكمة يسيطر على هذه الفوضى ويحميكِ منها وردة مفتحة تفوح بعطرها ارجاء المسكونة..ويحافظ عليكِ في قلوب البسطاء..وها انتِ كما أنتِ حيَّة قوية تغذين الاجيال وتفلحين كل بقعة جرداء..وتزرعين الأمل في نفوس الضعفاء..وتباركين الحاقدين والأعداء..وتوزعين قوة وحياة ونوراً..وتفتحين للناس ابواب الابدية..قوية عتيدة ايتها الارثوذكسية  
الصفحة الرئيسية > مقالات > اجتماعية
  أضواء على عقوبة الإعدام من المنظور المسيحي                                                            الأرشمندريت د. قيس صادق

ولوج قضية "عقوبة الإعدام من المنظور المسيحي" ليس بالأمر السهل، خاصة أن العرض يتطلب التأمل في لاهوت الكنيسة حول المشيئة الإلهية في خلق الإنسان، ودور الإنسان في المحافظة على خلقة الله.

تؤمن المسيحية بأن الله قد نفخ في الإنسان نسمة حياة فخلقه "على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم، وقال لهم انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها.."(تكوين 27:1-29)، هذا الموقف يؤكده الإسلام أيضاً الذي يعتبر الإنسان مخلوقاً قد فضّله الله على كل ما قد خلق وكرّمه، حتى إنه استخلفه الأرض وعهد إليه مسؤولية إنمائها "ولقد كرّمنا بني آدم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"(الإسراء الآية 70)، وبذلك فالإنسان المسيحي مدعو إلى أن يمارس فضيلة المحافظة على الصورة الإلهية الكامنة في جوهره، وفي جوهر قريبه، أن يحافظ على حياته وحياة قريبه، وأن يثمّن ذلك، والقريب - في المسيحية - هو الإنسان، أي إنسان، الإنسان بالمطلق، بغض النظر عن جنسه، أو عرقه، أو دينه، أو مذهبه، أو لونه، أو قوميته، فهو الحامل صورة الله ومثاله، فالعلاقة بين الإنسان والله (العلاقة العمودية) لا تكتمل إلا بعلاقة الإنسان بالإنسان (العلاقة الأفقية)، وبالتالي ليس من خلاص في المسيحية إلا بتلاقي الأفقي والعمودي معاً فيشكلان صليباً يجسّد المسيحي عليه رسالته في الأرض: خدمة البشرية المتألمة والمعذبة التائقة إلى استطار النعمة الإلهية.

حياة الإنسان هي هبة من لدن الله، والإعدام - وإن تفنّن الجلادون بطرائقه - هو جريمة قتل ألبسوها قناع القانون والعدالة تحت شعارات ابتكرها المشرّعون لتبرير جريمتهم مثل: تحقيق العدالة، حماية القانون، حفظ الأمن، وتوطيد الاستقرار، هنا يكمن التناقض: قتل بإسم العدالة؟؟.. هل تُقوَّم الجريمة بجريمة ؟.. هذا الموضوع بحاجة إلى موقف حاسم جريء، فالقتل مهما تعددت أسبابه وأنواعه هو خطيئة تُنهي حياة القريب التي اكتسبها كهبة إلهية لا بشرية، منذ لحظة تكوينه كجنين في أحشاء أمه.

وبذلك تعتبر المسيحية حق العيش والتمتع بالحياة حقاً إلهياً ليس لأي كائن بشري الحق في الحد من نمائه أو التقليل من أهميته.

الإعدام هو جريمة قتل متعمد مع سبق الإصرار، وهو جريمة موجهة قبل كل شيء صد الحضور الإلهي في الإنسان، هكذا يرى الكتاب المقدس أن القتل خطيئة موجهة ضد الله الساكن في القريب المقتول والمعدوم، ويعتبرها خطيئة صارخة إلى السماء "فقال ماذا صنعت ؟.. إن صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض"(تكوين 10:4)، "فلعن الله قايين لأنه قتل أخاه، وكل من يقتل مثله يكون ملعوناً سبعة أضعاف" (تكوين 10:4)، وتنص إحدى وصايا العشر "لا تقتل"، لأن "مَنْ قتل يستوجب الدينونة" (متى 21:5).

إذاً، فالقتل - وهنا يدرج الإعدام أيضاً - هو خطيئة تقتل نفس القاتل لأنها تلاشي الجوهر الذي سكب الله فيه صورته ومثاله، والقاتل (القاضي والجلاد والقانون...) يعيق العمل الإلهي، ويحد من نمائه وتطوره، ويسلب القريب حقاً لم يحصل عليه من أي إنسان آخر، بل كان الله قد أنعم عليه به، ألا وهو حق الحياة والعيش، وتالياً فالإعدام يغلق باب الرجاء بالتوبة للقريب الماثل أمام الله سائلاً انسكاب الرحمة الإلهية عليه، فالإعدام يخالف وصية المحبة ويمحو حق الإنسان في بناء العائلة والمجتمع، وأما دينونة منفذه فهي نار جهنم.

سأتوقف أمام بعض من قوانين الكنيسة المتعلقة بعقوبة القاتل، مع التركيز على أن السيد المسيح نفسه قد أمر بالنهي عن عقوبة الإعدام رغم أن الشريعة ترى إعدام المرأة الزانية رجماً بالحجارة حتى الموت: "فأتاه الكتبة الفريسيون بامرأة اُخذت في زنى، فأقاموها في وسط الحلقة وقالوا له: يا معلم إن هذه المرأة اُخذت في الزنى المشهود، وقد أوصانا موسى في الشريعة برجم أمثالها، فأنت ماذا تقول ؟.. فلما ألحّوا عليه السؤال انتصب وقال لهم: مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر.. وأما أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً..وبقي يسوع وحده والمرأة قائمة في الوسط، فانتصب يسوع وقال لها يا امرأة أين الذين يشكونك، أما حكم عليكِ أحد؟.. فقالت: لا يا رب، فقال لها يسوع: ولا أنا أحكم عليكِ اذهبي ولا تعودي تخطئين" (يوحنا 3:8-11).

نص القانون /23/ من مجمع أنكيرا (المنعقد في العام 314 في عهد الإمبراطورين قسطنطين الكبير وليكينيوس): "أما الذين يقتلون غير متعمدين فقد صار حكم سابق بانهم يُقبلون في الشركة التامة (شركة الإيمان الواحد والجماعة المسيحية) بعد قضاء سبع سنوات في التوبة حسب الدرجات المذكورة آنفاً، على أننا نجعل في هذا القانون مدة العقاب خمس سنوات".

أما القانون /21/ من المجمع ذاته فقد نص على عقوبة قاتل الجنين بقضاء عشر سنوات في التوبة: "قد حُدّد في قانون سابق أن تقطع اللواتي يجهضن الأطفال أو يصنعن العقاقير للإجهاض من الشركة حتى الموت، وقد وافق البعض على هذا ومع ذلك فنحن نرغب في أن يعاملن ببعض الشفقة، ولذلك قد حددنا بأن يقضين عشر سنوات في التوبة حسب الدرجات المذكورة".

في حين حدد القانون /22/ من المجمع ذاته عقوبة القاتل بتعمد بالقطع من الشركة حتى آخر حياته "ليبقَ القاتلون عمداً مع الراكعين و لا يُسمح لهم في الشركة التامة إلا في آخر حياتهم".

ويعتبر القديس باسيليوس الكبير (329-379) في رسالته القانونية حول القتلة أن: "مَنْ يقتل آخر فهو مجرم سفاك" (القانون 8)، ويحدد عقاب القتلة عن غير عمد بعشر سنوات، وأما مدة عقاب القتلة عن سابق تعمد فعشرون سنة: "إن مَنْ يقتل عمداً ثم يندم، يُفرض عليه القصاص بالقطع من الشركة عشرين سنة، أربع سنوات ينوح فيها على خطيئته خارج باب الكنيسة متوسلاً إلى المؤمنين وهم داخلون إلى الكنيسة أن يصلوا من أجله، وخمس سنوات يكون فيها مع السامعين ويخرج معهم (أن يغادر الكنيسة معهم حيث لا يحق لهم المشاركة في الصلوات مع المؤمنين) وسبع سنوات مع الراكعين ويخرج معهم، وأربع سنوات يقف فيها مع المؤمنين من دون أن يُسمح له بالشركة حتى نهاية العشرين سنة، فيتقدم إذ ذاك إلى تناول القرابين المقدسة" (القانون 56).

"وأما الذي قتل كرهاً فيكون محروماً من شركة المقدسات مدة عشر سنوات، فيكون سنتان مع الباكين، وثلاث سنوات يقف فيها مع السامعين، وأربع سنوات يكون راكعاً، وسنة واحدة فقط يقف فيها مع المؤمنين، وبعد ذلك يقبل في شركة المقدسات" (القانون 58).

ماذا بعد ؟..

نحن أمام قضية بحاجة إلى موقف جريء، فقضية حقوق الإنسان تكتنفها تعقيدات كبيرة، ولن أدخل في ثنائيات القضية الكامنة في الترادف والتمايز بين "حقوق الإنسان" و "الديمقراطية"، وثنائية "الممارسة" و "الانتهاك" في مجال حقوق الإنسان، وثنائية الإنسان "السياسي"  والإنسان "العادي"، ولكنني أتوقف أمام أهم ثنائية في الموضوع: "ثنائية التناقض بين الفكر والفعل" أو بين "النظري والتطبيق"، فالنظري الذي على الورق شيء، وإنما التطبيق فهو شيء آخر، فالدول الموقعة على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان هي أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وهي دول كاملة السيادة ومن حقها أن توقع هذه الاتفاقيات أو لا توقعها، لا أحد يُلزمها بذلك، ولكن إذا وقّعت وصادقت تلتزم، وتكون ملتزمة ببنود الاتفاقية الدولية فتدخلها في تشريعاتها المحلية وتصبح قانوناً محلياً، وهنا تكمن مشكلة كل الذين هم مدعوون مثلنا إلى الاهتمام بقضية حقوق الإنسان، كيف يمكننا أن نقرّب النظري من التطبيق؟.. وماذا علينا أن نعمل لردم الهوة بينهما ؟.. هذه هي مساحة الكفاح والنضال من أجل تجسيد حقوق الإنسان، أن نجعل النظري الذي على الورق يطبّق في الواقع العملي، وهذا يستلزم قدراً كبيراً من تجرد الإنسان فيعلو فوق مصالحه ونزواته الخاصة، وتالياً يناضل ويقدم التضحيات في سبيل تقريب النظري من التطبيق، وهذا النضال يتطلب وضع خطط لمسيرة عملية وعاينا أن نتوقع في مسيرة هذا التطبيق انتكاسات، إلا أن بعد كل انتكاسة يأتي الفرج، وحركة حقوق الإنسان هي ليست استثناء من منطق التاريخ.

 

 

                                       

 

الصفحة الرئيسية  |  الكنيسة  |  آبائيات  |  دينيات  |  مقالات  |  نشاطات  |  معلومات  |  أماكن مقدسة  |  خريطة الموقع  |  أتصل بنا
© 2006-2009 الأب الكسندروس اسد. جميع الحقوق محفوظة - تصميم وتطوير اسد للتصميم