من دون أدنى شك، يمر اليوم شباب عصرنا في أزمة تربوية أخلاقية كبيرة، ومسؤولية كهذه لا تقع فقط عليهم بل علينا نحن الكبار: الأهل، الأساتذة، الإكليروس، الآباء الروحيين... فقد فقدنا اتجاهاتنا الروحية وعلى الأكثر فقدنا تربية أولادنا الحقيقية "على صورة الله".
فدور الأهل اليوم للأسف أصبح بؤرة فساد في تربية وتهذيب الأولاد، أما من يربي أطفاله تربية جيدة وفي العمر المناسب فالحياة بالمسيح تمتد وتتجذر مستقيمة فيهم، وعندها لن تستطيع أية عاصفة أن تقتلعها في سن البلوغ والشباب، فمتى تبدأ التربية ؟...
طلب ناسك شيخ متميز بقداسته وسيرته وإنسانيته من احد تلامذته أمراً بالطاعة كي يختبره قائلاً: "اقتلع هذه الشجرة من الأرض"، وأشار إلى شجرة نخيل ضربت جذورها عميقاً في الأرض، فعمل التلميذ بطاعة وحاول بكل طاقته تحريك الشجرة لكنه لم يستطع مطلقاً، فنادى شيخه : "إن ما أعطيتني إياه لأعمله مستحيل للغاية"، عندئذ أشار الشيخ إلى شجيرة أخرى غضة، فاقتلعها التلميذ مباشرة دون أية محاولة أخرى.
استطاع هذا التلميذ أن ينتزع الشجيرة الغضة من الأرض من دون أي جهد أو عناء، على عكس الشجرة التي ضربت جذورها في الأرض وهرمت حتى انه لم يستطع أن يهزها.
هذه الرواية مرتبطة ارتباطاً جذرياً بمفهوم التربية، حيث نرى الأهل ضعفاء تجاه أولادهم الكبار لأنهم لم يبدؤوا تربيتهم والاهتمام بهم في العمر المناسب لذلك، ويقول احد الأمثال : "اسمع يا بني واقبل رأيي ولا تنبذ مشورتي" (حكمة سيراخ 23:7).
نهنيء البعض من الأهالي على التربية الحسنة التي ربوا بها أولادهم، فهؤلاء المؤمنون الحسني العبادة لديهم أطفال ذوو أخلاق حسنة، ولكن للأسف غير مرغوب بهم في مجتمعنا.
إن الكثير من الأهل غير مهتمين بتربية أطفالهم الأخلاقية، فهم يعمون بمحبتهم المفرطة لهم ولا يريدون أن يروا فيهم أية شائبة وعيب، يتجاهلون ملاحظات الآخرين ويرفضون سماع الحقائق والنصائح لأولادهم، ولكن عندما يزّل الأولاد برذائل لا تحتمل عندها يبدأ الأهل بالتفكير المليء في إصلاح ابنهم أو ابنتهم، ولكن الالتجاء للتربية هنا يكون متأخراً جداً ولا ينفع شيئاً، فمن الضروري بدء التربية منذ الطفولة الأولى.
أنتم خير من يعلم أن البذرة تنمو في داخل الأرض بسرعة وتساعد عوامل كثيرة في التأثير عليها، كالحرارة والرطوبة التي توقظ النبتة النضرة داخل التربة وتبدأ تدريجياً بالظهور على وجه الأرض، والأمر نفسه يحدث مع الطفل الذي يشبه البذرة، فهو يأتي إلى العالم ويكبر تدريجياً، فالطبيعة البشرية تكبر بمقدار أكبر في عمر الطفولة عما بعد، لهذا فهناك حاجة ماسة للعناية والتعهد بها في السنين الأولى لحياتها.
إن النمو الروحي أيضاً يكبر بسرعة وثبات كما في النمو الجسدي، فيبدأ الطفل التعلم والتفكير في المفاهيم الأولية فتشتد إرادته ويتأمل ويحكم على الأشياء ويغتني ذهنه بأفكار موضوعية ظاهرة من محيط بيئته، ويدرك ويفهم معها مفهوم الله، ويستطيع أن يعبِّر عن هدفه وقصده ويفصل بين الجيد والسيئ، يصحو فيه الضمير وتبدأ تتحرك فيه مشاعر المحبة أو الكراهية، والاحترام والخجل.
لنفحص بدقة جميع الإمكانيات والمحاولات التي تؤهل الإنسان أن يماثل الله، وعلى الأهل بداية أن يحاولوا بانتباه كبير إلى التدقيق في أخلاق طفلهم، فالتربية لها شقان :
1- اقتلاع الشر
2- زرع الخير
وتربية الأطفال واجبة منذ سني الطفولة الأولى، لا يعطي الكثير من الأهل اهتماماً لهذه النقطة ولا يعرفون أن تربية الطفل تبدأ منذ الصغر، والقليل منهم وخاصة حديثو العمر في الزواج، وعلى المدى الطويل يرون طفلهم كلعبة أو دمية، يطعمونه، ويحملونه لينام، يدللونه، يلعبون معه ويمرحون، ويحضنونه بكل الوسائل لكي لا يصاب بالبرد أو بأي مرض..الخ..وإضافة إلى كل هذا يتركونه يركض ويلعب ويعمل ما يحلو له، فقط كي لا يزعجهم بأصوات بكائه.
هؤلاء أنفسهم لا يدركون أن هذا "الملاك" فيما بعد سيصبح عنيداً، متذمراً، عاصٍ، طماعاً، شرهاً، وفي النهاية ولداً سيء الطباع والمزاج، حينها سيبصرون الحقيقة ولكن الوقت قد تأخر جداً والشجرة قد كبرت الآن كثيراً ولا يمكن اقتلاعها.
أيضاً بعض الأهل وهم ليسوا بقلة، يخطئون الهدف ولديهم من مفاهيم التربية الخاطئة الشيء الكثير، وهي اليوم قد تجذرت في عقولهم وتأصلت، وهذه المفاهيم يصعب اجتثاثها، فيعطون حججاً وعللاً عن الرذائل والشرور المتنوعة التي يتصرف بها أولادهم، ومن جهة أخرى يحجبون الكسل واللامبالاة عن نشأتهم الخاصة لهم.
يقول الأهل ذوو المشاعر الرقيقة : "إنهم أولاد.. هل نعطي أهمية كبرى لزلاتهم وأخطائهم ؟.."وبمثل هذه التشابيه يدعمون ويغفرون أخطاء أطفالهم دوماً دون إعطاء أي تنبيه أو رادع، إنهم أطفال بالفعل، وأي أطفال!.. ويتابعون القول : "ماذا سيخرج من هؤلاء الأطفال، هل لديهم أخطاء، وهل يعلمون الشر ؟.. أمن المنطق أن يكترث المرء لزلة صغيرة قام بها ولد صغير ؟.."
إن اشتعلت النار داخل المنزل هل نتعجب ونقول : "ما أجمل هذه النار ؟.."أم طالبين قوى المساعدة لإطفائها ؟.." هكذا تبرز داخل الطفل الهواء وتهدده بتقدم العمر والزمن .
بعض الأهل ذوو الفطنة يقولون : "مع الزمن تأتي التربية، فالولد يبدأ يفكر بنفسه ما هو الجيد وما هو السيئ" إن هذا لضلال مهلك !.. له حدان : يستطيع المرء أن يتحول إما للخير أو للشر، فالعقل وحده لا يكفي كي يدلنا على الخير، والمعرفة البسيطة لا تفيد شيئاً، فالعقل تعطله الشهوة، فيجب أن يختار الصلاح وأن يكون قد اعتاد عليه، وعلى هذه الأمور يربّى الطفل وهو في مراحله الطفولية الأولى، ويُرشَد بالتربية كي لا يعرف الخير متاخراً، وإن لم تبدأ التربية في العمر المناسب، فعقله يكون هدية خطرة جداً، فكثير من الناس لديهم عقل قوي لكنهم اليوم هم في السجون ودور التأهيل، وكلنا نعلم ماذا نجد هناك ؟.. هذا بالضبط لأن التربية والمعرفة "أتت مع الزمن !.."
والعقل الراجح الخيّر من طبيعة الإنسان، إن لم يقبل التربية الصحيحة في العمر المناسب فسيميل إلى الشر، إن الأهالي يبررون أخطاء الأطفال والشباب في المواقف الصعبة التي يتعرضون لها، ويبرر الأهل هذه الأفعال بقولهم : "أنستطيع أن نطالب بالفضائل من عمر الطفولة ؟.." يقدّم لنا الإنجيل مثالاً رائعاً عن حياة ربنا يسوع المسيح الطفولية ويقول : "وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة، وكانت نعمة الله عليه" (لوقا2: 52-40)، وإذا تذكرنا الشهداء نرى حياتهم المقدسة، أنهم في عمر الطفولة اكتسبوا فضائل العبادة وحسن الطاعة وكانوا عديمي الشر، وهم ليسوا بقلة، يقول مخلصنا للأطفال : "دعوا الأطفال يأتون إليَّ" (متى 14:19)، وأيضاً : "مَنْ أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر" (متى 6:18).
إذاً هل من المستحيل على الأطفال أن يظفروا بالفضيلة ؟.. يقول السيد : إن الفضيلة تقتنى في العمر الصغير لأن الطفل يكون نقياً وطاهراً، لهذا، واأسفاه!..على الأهل الذين لا يهتمون بأن يزرعوا في نفوس أطفالهم العادات الجيدة والميل نحو الخير وخاصة في سني الطفولة.
إن الطفل يحصل على ما يريد بصوت بكائه، وبه ينال رغبته ومراده، ويعيد هذا الأمر بإصرار أكبر ليحصل على ما يشاء مدركاً أن بكاءه هو السبب في حصوله على ما يريد.
الإمبراطور الروماني "دومتيانوس" الذي كان من المضطهدين القساة للمسيحيين في القرون الأولى، نجد انه عندما كان طفلاً صغيراً كان يروق له أن يؤذي ويقتل الحيوانات المختلفة الأنواع، وبالتالي هذه الخشونة الفظة التي امتلكها كانت متأصلة فيه من مرحلة الطفولة، لهذا علينا أن نبدأ بالتربية منذ الطفولة ولا نتقاعس أو نغض الطرف أو نهمل ذلك.
تابعوا دوماً ميل أطفالكم، وراقبوهم بالخير واقتلعوا الشر بالتربية الحسنة، إن البستاني يقلم الأشجار في الوقت المناسب لها، ويشذب الشجرة من الأغصان الشائكة ويقتلع الحشائش البرية الضارة عن جذورها، وهذا هو بالضبط ما على الأهل أن يصنعوه مع أولادهم، فقلوب الأطفال كالحديقة، والأهل هم بستانيو الله الذين عليهم أن ينظفوا الحديقة في وقتها (أي قلوب الأطفال) من حشائش الخطيئة البرية الخطرة ويمنعوا الشرور أن تتأصل لتصبح عادات سيئة متجذرة.
إن تأخرتم وتأصل الشر ونبتت حشائش الخطيئة في قلوب الأطفال، عندئذ لن تستطيعوا أن تخرجوها فيما بعد إلا بصعوبة ومع زؤان كثير، وحينها " تشتكون وتتذمرون "، يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم ويقول : " كيف سيكون طفلكم وديعاً ؟؟.." ويتابع قوله : " إن هذا بالأمر السهل إن عودتموه على ترتيب ونظام معينين وعلمتموه أن هناك عقاباً بعدم إتمام واجباته، وعملتم على معالجة مرض نفسه، عندها تصبح التربة صالحة ومناسبة للزرع، وانتبهوا أن تقتلعوا الشوك في وقته قبل أن يتأصل شديدا ً أما التغافل والتهاون فيصل إلى صعوبة التغلب على أهواء أولادكم" التربية ليست هي اقتلاع الشر من الطفل، بل هي أيضاً تعويده منذ الصغر على فعل الخير، فما هي الفضائل التي يجب أن نزرعها في نفوس أطفالنا ؟..
يظهر لنا الكتاب المقدس كلاماً أساسياً عما يجب فعله لتدريب الطفل على فعل الخير في مرحلة الطفولة، يتحدث الحكيم سيراخ كيف أن أُعطي للشاب طريقاً فلن يبتعد عنه حتى ولو شاخ، فكم بالحري إن أُعطي الإنسان وهو حديث العهد الطريق السليم !.. وإن تعوّد على حب الخير فعندما يتقدم في العمر ويصبح شيخاً لن يتغير، وكما يقال في المثل الشعبي الشائع : "كما في المهد، كذلك في اللحد"، والحكيم سيراخ يقول : "اسمع يا بني واقبل رأيي ولا تنبذ مشورتي "(حكمة سيراخ 23:7).
"فكما يتربى الطفل على عادات في الصغر، هكذا يشيخ ويموت عليها"