س
 

جاورجيوس قسطنطين وهيلانة ألكسندروس وانطونينا كبريانوس
يعقوب المقطع بطرس وبولس ايلياس مارينا

رقاد السيدة

     

                     القديسـة البـارة بيلاجيـا

                                          8/ تشرين الأول                         

    في عهد الملك مركيانوس أقيم الراهب نونوس أسقفاً على مدينة الشمس المعروفة اليوم بمدية بعلبك عوضاً عن أسقفها ايبا المخلوع وقد اظهر هذا الأسقف الجليل غيرة متقدة لاسيما نحو الشراكسة والقبائل الأممية الأخرى، حيث رد منهم الكثير إلى الإيمان بالمسيح وكان يصنع ذلك في كل مكان يحل فيه فمواعظه وإرشاداته الرعائية الشهيرة قد أثمرت ثماراً صالحة منذ أن خرج من ديره، كما فعلت فعلها الصالح في ارتداد القديسة البارة بيلاجيا.

 فالقديسة بيلاجيا كانت فيما مضى امرأة قبيحة السيرة وممارسة مهنة الرقص، بل وكانت رئيسة الراقصات ومشتهرة جداً في زمانها وكانت ذات سمعة وشهرة كبيرة وخاصة بين أصحاب هذه المهنة في مدينة أنطاكية.

 وكان الشعب الإنطاكي يطلق عليها اسم مرغريتــا أي (الدرة الثمينة)، حيث كانت ذات جمال خلاب يسحر الناظرين إليها وهي مزينة بأغلى أنواع الجواهر واللآليء، محاطة بالحراس الأشداء الأشاوس ليحمونها من مؤامرات واعتداءات أعدائها الذين كانوا يتضايقون منها كثيراً، ويحيكون المؤامرات لقتلها والتخلص منها ليفسح لهم المجال بالتقاط رزقهم الذي شح وضؤل بشهرتها وجمالها وفنها الفريد في الرقص وجمالها الخلاب.

وفي احد الأيام أمر البطريرك الإنطاكي مكسيميانوس أن يعقد في مدينة أنطاكية مجمعاً عاماً لأساقفة الأبرشيات لدراسة بعض الأمور المستجدة واتخاذ القرارات بشأنها وحضور احتفالات معمودية الموعوظين، وكان المكان الذي التئم به المجمع بمحاذاة كنيسة القديس يوليانوس ومشرفاً على الطريق وبينما كان الأساقفة مجتمعين مرت من أمام المكان الراقصة بيلاجيا وهي مرتدية أحلى أثوابها المثير للغرائز، ومزينة بالجواهر والحلي الذهبية الغالية الثمن ومحاطة بعدد كبير من الشبان والشابات والحرس الشخصي وممتطية بغلاً لكي يشاهدها الجميع أثناء مرورها، وكأنها منتصرة وقاصدة هذا المكان بالذات لتثير الإعجاب وتلفت الأنظار إليها وخاصة من قبل أساقفة المجمع الذين حولوا أنظارهم عنها لأن منظرها يثير الشكوك في النفوس ويثير الغرائز الكامنة.

 إلا أن الأسقف نونوس أسقف مدينة بعلبك ظل محدقاً فيها بإمعان، وراح يبكي على حالها المزري الذي تسيطر عليه الشياطين وترمي بجمالها في أوحال الرزيلة والزنى وحب الدنيا وملذاتها والتفت إلى إخوته الأساقفة وقال لهم بحزن شديد: "إنني أخشى من هذه المرأة أن تكون في يوم من الأيام سبباً وعثرة في إسقاط عدد كبير من المسيحيين حيث أنها تولي اهتماماً بالغاً في زينتها وجمالها ومفاتنها، بينما هم يظهرون كل صلاح لإرضاء الله ومزينين بحسن العبادة"، وكان هذا الأسقف لا يعلم شيئاً عن سيرتها وشهرتها ومَنْ تكون بيلاجيا.

 في اليوم التالي وكان يوم احد ذهبت بيلاجيا إلى الكنيسة مع عدد من الموعوظين الذين يهيئون أنفسهم لتقبل سر المعمودية ليصبحون مسيحيين، وكانت قد تجاهلت هي الاستعداد اللازم الذي تهيؤه الكنيسة للموعوظين، لأن مهنتها كانت تتغلب عليها وتتطلب الالتزام الدائم بها وكانت الكنيسة أثناءها تتغافل عنها لأسباب مجهولة.

فلما استمعت إلى وعظ الأسقف نونوس عن الدينونة الأخيرة والعواقب الوخيمة التي سينالها الخطأة، والمكافآت الكثيرة التي سينالها الصالحون، تحركت عواطفها نحو التوبة الحقيقية والعودة إلى حظيرة الرب يسوع، لتنال المغفرة والحياة الأبدية السعيدة عوضاً عن نار جهنم وعذاباته.

في ذلك اليوم تقدمت إلى الأسقف نونوس وأخبرته بقبولها التام سر المعمودية المقدسة، فطار فرحاً وسعادة بهذا الخبر مقدماً لله الشكر على هذه النعمة ومفسراً حلمه الذي رآه قبل ليلة حيث شاهد فيه حمامة قذرة سوداء اللون قد استحالت إلى حمامة بيضاء كالثلج وغطست في حوض ماء أمام باب الكنيسة، وحلقت في السماء، إلا أن الأسقف كان قد تأخر بإعطاء الجواب الأخير لرغبة بيلاجيا بتقبل سر المعمودية، فذهبت مسرعة إلى كنيسة القديس يوليانوس حيث رأته مجتمعاً مع الأساقفة فرمت بنفسها أمامهم، وانطرحت على قدميه ملتمسة منه أن تهبها سر المعمودية بدموع غزيرة حارة، فأجابها الأسقف نونوس بأن الخطأة المشتهرين بخطاياهم مثلها لا ينبغي أن يُعطى لهم هذا السر المقدس، إلا بعد أن يكونوا تائبين توبة صادقة وأكيدة عن خطاياهم، وكان يقول لها هذا ليمتحن حقيقة رغبتها ولإعلان توبتها الصادقة عن حياتها السابقة، ولتعود إلى حياة الفضيلة والعفة والقداسة، وكلما كان الأسقف مصراً على عدم قبولها كلما زاد نحيبها وانهمرت دموعها بغزارة لا توصف، متضرعة إليه بزفرات حارة جعلت جميع الأساقفة مقتنعين من توبتها وعدم منعها من اقتبال سر المعمودية.

وبأمر وإذن من البطريرك منحها الأسقف نونوس المعمودية وتناولت القربان المقدس، مقتنعاً هو وجميع الأساقفة بصدق وحقيقة توبتها، متعجبين من هذا التغيير المفاجئ والكبير لحياتها، ومتذكرين قول الرب يسوع:"إنني لم آت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخطأة".

رجعت بيلاجيا إلى منزلها وكأنها خليقة جديدة قد أبدعها الله من جديد تتحلى بجمال العفة والتوبة وأرسلت إلى مرشدها الأسقف نونوس جميع أموالها ليوزعها على الفقراء والمساكين، وأطلقت العبيد العاملين لديها وأعطتهم حريتهم، ولما أتمت الأيام الثمانية بعد اقتبالها سر العماد المقدس حسب عادة تلك الأيام، حيث كان جميع المعتمدين يرتدون الثياب البيضاء الناصعة طيلة ثمانية أيام متواصلة يقضونها في الصلاة والتوبة والسعادة تغمرهم، فخلعت ثيابها البيضاء ولبست المسوح وفوقه لبست ثوباً مهملاً كان قد أعطاه لها الأسقف نونوس لترتديه، وخرجت سراً من مدينة أنطاكية متجهة إلى أورشليم، وهناك حبست نفسها في مغارة مجهولة في سفح جبل الزيتون قرب أورشليم، مرتدية ثوب الرجال الرث ودعت نفسها باسم "بيلاجيوس" بدلاً من بيلاجيا، لأن الرهبنة النسائية في تلك الأيام كانت غير شائعة ومقتصرة على الرجال فقط لا غير، وإذا ما شعر الرهبان هناك بأن امرأة قد دخلت مجال تنسكهم وتعبدهم كانوا يرفضون قبولها ويطردونها من ذلك المكان خوفاً من أن تفسد عليهم عيشتهم وحياتهم النسكية، وتعيدهم إلى حياة الدنيا وملذاتها ومخالب الشيطان، وهناك قضت القديسة حياتها النسكية مقدمة أفعال التوبة الصادقة، ومتنكرة بزي الرجال كي تبقى محافظة على البقاء في منسكها متممة حياتها بالصلاح والتوبة.

 وبعد عدة سنوات أراد الشماس يعقوب وهو احد شمامسة الأسقف نونوس، وهو الذي رافق بيلاجيا في أنطاكية لمواجهة أسقفه أثناء وجوده فيها، وهو الذي شاهد كل ما حدث هناك بين أسقفه وبيلاجيا، فهذا أراد أن يقوم بزيارة إلى أورشليم ليزور تلك الأماكن المقدسة، وعندما ودَّعه الأسقف أوكله بأن يفتش ويستفسر له عن إنسان خصي يدعى بيلاجيوس، حيث له أكثر من أربع سنوات عائشاً منفرداً هناك، ولم يدري ذلك الشماس أن بيلاجيوس هو نفسه بيلاجيا بل ظن بأن هناك إنسان فعلاً يدعى بهذا الاسم، ويود أسقفه البحث عنه والاستفسار عن أحواله معقتداً بأنه قد يكون احد أقرباء الأسقف أو أحد معارفه.

 وعندما وصل الشماس إلى أورشليم راح يسأل ويستفسر عن بيلاجيوس السائح في كل مكان يحل فيه، وبعد البحث المرير وجد سائحاً حابساً نفسه في مغارة في سفح جبل الزيتون لم يكن لها سوى نافذة صغيرة واحدة وغالباً ما تكون مغلقة، فالعيشة القاسية لحياتها الجديدة بالتوبة جعلت من هيأتها أن تتحول من هيئة الغنى والجمال الفريد إلى شبح ذا منظر غريب لا يمكن لأحد أبداً أن يعرف أن هذا الرجل السائح هو بيلاجيا نفسها، مما جعل الشماس لا يشك أبداً في ذلك ولم يستطع أن يتعرف عليها رغم معرفته السابقة الأكيدة لها فقال لها الشماس يعقوب:"إنني جئت إلى هنا طالبا أن أراكَ لكي أبلغكَ السلام والإكرام من الأسقف نونوس الذي اعمل برئاسته وقد أوكلني أن أبلغكَ ذلك"، فأجابته بيلاجيا:"نونوس هو رجل قديس وإنني اطلب أنا منه أن لا ينسى ذكري في صلواته"، قالت ذلك وأغلقت النافذة وراحت تصلي.

وبعد أن أنهى الشماس جميع زياراته للاماكن المقدسة والأديار والمناسك في تلك الناحية، وكان قد سمع من الجميع عن سيرة بيلاجيوس السائح المتشحة بالقداسة والفضيلة، أراد أن يعود إليه ثانية قبل مغادرته فلسطين، طالباً البركة منه وسائلاً احتياجاته، فقصد مغارة بيلاجيوس وعندما دخلها شاهده مطروحاً على الأرض فاقد النسمة، فأخبر الرهبان القريبين منه فجاؤوا حالاً إليه، ولما تحققوا من موته اهتموا بمباشرة إجراءات الجنازة حسب العادة المتبعة آنذاك بين الرهبان، حيث يُغسَل جسد الراهب أو الناسك ثم يكفن، وعندما باشروا العمل أصابتهم الدهشة والعجب والإنذهال، عندما شاهدوا امرأة عوض رجل، فطار الخبر في كل مكان وتقاطر الناس من كل ناحية وصوب لزيارة جسد هذه البارة وتكريمها خاصة بين البتولات اللواتي تحققن من الأمر، ممجدات الله الذي هو عجيب في قديسيه ومسبحات عظم عنايته الإلهية الفائقة حيث يدعو إليه المختارين من أي جنس كان ليشركهم بملكوته السماوي.

بعد أن دُفن الجثمان الطاهر باحتفال عظيم، سافر الشماس يعقوب عائداً إلى مدينة بعلبك إلى أسقفه نونوس حاملاً خبر هذا الحادث الغريب وهو مذهول مما شاهده وعاينه، حينئذٍ أطلعه الأسقف على السر بأن بيلاجيوس هو نفسه بيلاجيا التي كان قد شاهدها في أنطاكية، فكتب الشماس قصة حياتها وكل ما عرفه وشاهده عنها لمجد الله ولإرشاد الخطأة بنموذج هذه القديسة التي تابت توبة صادقة وعاشت حياة الفضيلة والقداسة فنالت ملكوت السماوات فبشفاعاتها أيها الرب يسوع المسيح ارحمنا وخلصنا آميــن.

الطروبارية:

بكِ حُفِظتْ الصورة باحتراسٍ وثيق أيتها الأم بيلاجيا، لأنكِ قد حملتِ الصليب وتبعتِ المسيح وعملتِ وعلمتِ أن يُتغاضى عن الجسد لأنه زائلٌ ويُهتم بأمور النفس غيرَ المائتة، فلذلك أيتها البارة تبتهجُ روحكِ مع الملائكة.